بقلم: أ. لما عواد

قبل عقدين أو ثلاثة، كانت معايير التوظيف في فلسطين واضحة ومباشرة: شهادة أكاديمية، خبرة محدودة، انتماء مؤسسي، وكفاءة عملية. كان الخريج يعرف ما هو مطلوب منه، وكان صاحب العمل يعرف ما الذي يبحث عنه، وكانت المطابقة بينهما عملية نسبياً مباشرة. لكن اليوم، تغيّرت الصورة جذريًا، إذ تضخمت المتطلبات لتشمل مروحة واسعة من المهارات الحياتية والرقمية واللغوية، وتحوّلت عملية التوظيف إلى مسار معقد تتداخل فيه التكنولوجيا والسياسات والعوامل الاجتماعية والقيود السياسية الخاصة بالسياق الفلسطيني.

ورغم هذا التوسع الهائل في المتطلبات، لم تتحقق النتائج المرجوة، بل ظهرت نتائج عكسية تتمثل في بطالة مقنّعة متزايدة، وظائف لا تستثمر القدرات والمهارات الحقيقية للخريجين، وإحباط متنامٍ لدى جيل يجد نفسه في دوامة لا تنتهي من التعلم والتدريب والتقديم دون جدوى. ما نعيشه اليوم ليس مجرد تحديات عابرة في سوق العمل، بل هو نتاج وانعكاس لتداخل سريع ومعقد بين تحولات تكنولوجية تمثلت (الثورة الرقمية والعمل عن بُعد)، وتغيرات هيكلية فرضتها الحاجة (لدمج الأدوار وتكثيف المهام لخفض التكاليف)، وعوامل اجتماعية أنتجت (تضخم قيمة الشهادات واشتراطاً متزايداً للشبكات الاجتماعية، والاعتماد على العلاقات الشخصية) إلى جانب خلل بنيوي في آليات التعليم وسياسات التوظيف وطرق وآليات المواءمة بين العرض والطلب.

النتيجة النهائية لهذا التداخل المعقد كانت كارثية على مستويات متعددة. فمن جهة، نشهد تضخماً غير مسبوق في المتطلبات، حيث أصبحت وظيفة واحدة تتطلب مهارات كانت في السابق موزعة على ثلاثة أو أربعة موظفين. ومن جهة أخرى، نشهد رفضاً او استبعاد متكرر لمتقدمين / مرشحين مؤهلين فعلياً لمجرد غياب كلمة مفتاحية في سيرهم الذاتية أو عدم امتلاكهم للشبكات الاجتماعية الصحيحة. وفي الوسط، نجد ارتفاعاً مخيفاً في ظاهرة العمل دون استثمار المهارات، حيث يجد خريجون بشهادات عليا ومهارات متقدمة أنفسهم في وظائف لا تستثمر إلا نسبة ضئيلة من قدراتهم، مما يخلق إحساساً عميقاً بالهدر والإحباط. كل هذا يترجم في النهاية إلى معاناة طويلة للباحثين عن عمل الذين يجدون أنفسهم في سباق لا ينتهي من التعلم والتطوير دون أن يصلوا إلى خط النهاية أبداً.

الإطار التشخيصي

لفهم هذه الظاهرة المعقدة بشكل شامل، لا بد من قراءتها عبر ثلاث أبعاد مترابطة رئيسية تشكل معاً منظومة سوق العمل، حيث أن المشكلة ليست أحادية الجانب. من السهل أن نلقي اللوم على الخريجين ونقول إنهم “غير مؤهلين”، أو أن نلقي اللوم على أصحاب العمل ونقول إنهم “يطلبون المستحيل”، لكن الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. المشكلة منظومة، تتداخل فيها عوامل تكنولوجية واقتصادية واجتماعية وسياسية، وحلها يتطلب فهماً عميقاً لكل هذه الأبعاد وتدخلات منسقة على مستويات متعددة.

الزاوية الأولى للقراءة المتعددة هي طرف الطلب، أي (أرباب العمل والقطاعات الاقتصادية المختلفة)، وهنا نسأل: ماذا يريد السوق الآن؟ ولماذا تغيرت أولوياته بهذا الشكل الجذري؟، لماذا ارتفعت المتطلبات بهذا الشكل؟ والزاوية الثانية هي طرف العرض، أي (الخريجون، المتعلمون والعمال والباحثون عن فرص، وهنا نسأل: ماذا يملك هؤلاء الباحثون فعلياً؟ وكيف يطوّرون مهاراتهم في ظل الموارد المحدودة المتاحة لهم؟ أما الزاوية الثالثة فهي آليات التوافق، أي (سياسات التوظيف والوسائل المتبعة) منظومة التوظيف والوسائل المستخدمة والسياسات الحاكمة، وهنا نسأل: كيف يُفترض أن يلتقي الطلب مع العرض في ظل هذه المنظومة؟ وما هي العوائق التي تمنع هذا اللقاء رغم وجود حاجة حقيقية من جهة ووجود كفاءات من جهة أخرى؟

هذا المقال سيتناول قراءه من زاوية الطلب، حيث نحلّل ونسعى إلى كشف عمق المعضلة، وكيف غيّرت التحولات التكنولوجية والتحولات في طبيعة الاقتصاد الفلسطيني والعالمي أولويات أصحاب العمل، وكيف باتت بعض المهارات التقليدية أقل قيمة أمام مهارات جديدة مرتبطة بالرقمنة، وإدارة البيانات، والقدرة على التكيف السريع، ليس بهدف تشخيصها فقط، بل من أجل فتح أفق للنقاش حول الحلول الممكنة التي تعيد لسوق العمل الفلسطيني توازنه المفقود وتحوّله من حالة العجز والتضخم إلى فضاء أكثر عدالة وفعالية.

أرباب العمل وقواعد التوظيف

في ظل التحولات الرقمية، لم تعد الوظائف كما كانت، فكثير منها تتطلب مزيجاً معقداً ومتشابكاً من المهارات التقنية والناعمة (Soft & Hard Skills)، بحيث لم تعد الوظيفة الواحدة تقتصر على مهمة محددة وواضحة، بل أصبحت تتطلب حزمة متكاملة من القدرات المختلفة. فالموظف اليوم لا يُتوقع منه فقط أن يجيد مهارة تقنية واحدة مثل البرمجة أو تحليل البيانات أو التصميم، بل يُتوقع منه أيضاً أن يمتلك مهارات ناعمة متقدمة مثل التواصل الفعال والتفكير النقدي والعمل الجماعي، إضافة إلى إتقان مجموعة واسعة من الأدوات والمنصات الرقمية التي تتطور باستمرار.

مثال من السوق الفلسطيني: وظيفة “مسؤول إعلام” في مؤسسة محلية تتطلب الآن: كتابة محتوى، تصوير، تحرير فيديو، إدارة منصات تواصل، تحليل بيانات المنصات، تصميم جرافيك، وأحياناً إدارة الموقع الإلكتروني!، هذا التحول الجذري في طبيعة الوظيفة لم يكن مصحوباً بزيادة مناسبة في الراتب أو بتوفير تدريب كافٍ، مما قد يخلق فجوة هائلة بين ما هو متوقع وما هو متاح.

المنصات الرقمية والمنافسة العالمية

دخول المنصات العالمية (LinkedIn, Upwork, Freelancer) إلى حياتنا اليومية لم يكن مجرد إضافة تقنية، بل غيّر قواعد اللعبة بشكل جذري، رفعت المعايير محليًا، ووسّعت نطاق المنافسة. فبينما يفتح الاقتصاد الرقمي نافذة للعمل عبر الحدود، فإنه يفرض على الشاب الفلسطيني أن ينافس نظراءه إقليميًا وعالميًا، بموارد أقل وفرص تدريب محدودة. فالشركة الفلسطينية الصغيرة أو المتوسطة لم تعد تنافس فقط الشركات المحلية الأخرى، بل أصبحت تجد نفسها في منافسة غير متكافئة مع شركات إقليمية وأحياناً عالمية.  هذا الواقع الجديد دفع أصحاب العمل الفلسطينيين إلى رفع معاييرهم بشكل حاد في محاولة لضمان ميزة تنافسية في سوق مفتوح وقاسٍ، حتى لو كانت هذه المعايير المرتفعة غير واقعية في كثير من الأحيان.

لكن هذا الواقع يحمل مفارقة خاصة في السياق الفلسطيني فرغم القيود السياسية والجغرافية الخانقة التي تحد من حركة البضائع والأشخاص، فإن الاقتصاد الرقمي يفتح نافذة للمنافسة العالمية والوصول إلى أسواق بعيدة. مصمم جرافيك فلسطيني يمكنه نظرياً أن يعمل لشركة في دبي أو لندن دون أن يغادر مكتبه في رام الله أو نابلس، ومطور برمجيات في غزة يمكنه المساهمة في مشروع عالمي دون الحاجة لتصريح حركة. لكن هذه الفرصة تأتي مع ثمن باهظ، فهي تعني أيضاً أن المنافسة لم تعد محلية فقط، وأن على الباحث عن عمل الفلسطيني أن يثبت أنه ليس فقط بمستوى نظيره المحلي، بل بمستوى نظيره الإقليمي والعالمي أيضاً، وهو تحدٍ هائل في ظل الموارد المحدودة المتاحة للتدريب والتطوير، وفي الوقت نفسه يزيد الضغط على المعايير المحلية.

تقليل المخاطر ونقل عبء التدريب

عندما تجعل الشركة متطلبات الوظيفة معقدة وطويلة، فإنها في الواقع تحاول تحقيق هدفين: زيادة احتمالية أن المرشح الذي سيتم توظيفه “جاهز” تماماً ولا يحتاج إلى استثمار كبير في التدريب، ونقل عبء التدريب والتطوير من المؤسسة إلى الفرد نفسه. هذا النهج يبدو منطقياً من وجهة نظر الشركة التي تريد تقليل التكاليف وتسريع الإنتاجية، لكنه يحمل إشكالية كبيرة: إنه يفترض أن السوق مليء بمرشحين جاهزين مئة بالمئة، وهو افتراض غير واقعي تماماً في أي سياق، وخاصة في السياق الفلسطيني حيث الموارد محدودة وفرص التدريب النوعي قليلة ومكلفة.

هذه الاستراتيجية تعكس تحولاً خطيراً في فلسفة التوظيف. في الماضي، كانت الشركات تنظر إلى التوظيف كاستثمار طويل الأمد، حيث توظف موظفاً واعداً وتستثمر في تدريبه وتطويره على مدى سنوات، وتستفيد من ولائه وخبرته المتراكمة. أما اليوم، فكثير من الشركات تنظر إلى التوظيف كعملية شراء خدمة جاهزة، حيث تريد موظفاً يمكنه البدء في الإنتاج من اليوم الأول دون أي استثمار من طرفها. هذا التحول قد يحقق مكاسب قصيرة الأمد للشركة، لكنه يخلق مشكلة بنيوية في سوق العمل، حيث لا أحد يستثمر في تطوير المهارات الجديدة أو في بناء الجيل القادم من الكفاءات.

وظيفة واحدة بمهام ثلاثة

تواجه الشركات الفلسطينية، وخاصة الصغيرة والمتوسطة (التي تمثل أكثر من 90% من القطاع الخاص)، ضغوطاً هائلة لخفض التكاليف التشغيلية في ظل اقتصاد متعثر ومحدودية الموارد. إحدى الاستراتيجيات الشائعة لتحقيق ذلك هي دمج أدوار متعددة في منصب وظيفي واحد، بحيث يقوم موظف واحد بمهام كانت في السابق موزعة على ثلاثة أو أربعة موظفين. هذا ما يفسر لماذا نجد إعلانات وظائف تصف منصباً واحداً بقائمة مهام ومهارات طويلة تبدو غير واقعية للوهلة الأولى.

لنأخذ مثالاً ملموساً من سوق العمل الفلسطيني. في الماضي، كان لدى المؤسسة الإعلامية النموذجية مصور متخصص في التصوير الفوتوغرافي والفيديو، ومحرر متخصص في مونتاج الفيديو والصوت، ومصمم جرافيك متخصص في الإنتاج البصري، وكاتب محتوى متخصص في الكتابة. أما اليوم، فكثير من المؤسسات تبحث عن “منتج محتوى” واحد يجمع كل هذه المهارات: تصوير ومونتاج وتصميم وكتابة، وربما أيضاً إدارة منصات التواصل وتحليل البيانات! هذا النموذج قد يبدو فعالاً من حيث التكلفة للمؤسسة، لكنه يضع ضغطاً هائلاً على الموظف الذي يُتوقع منه أن يكون خبيراً في مجالات متعددة في نفس الوقت، وهو توقع غير عادل وغير واقعي في أغلب الأحيان.

عندما تحكم الخوارزميات

دخول أنظمة الفرز الآلي للسير الذاتية إلى عملية التوظيف غيّر قواعد اللعبة بشكل جذري، وليس بالضرورة نحو الأفضل. هذه الأنظمة، المعروفة بـ Applicant Tracking Systems أو ATS اختصاراً، تعتمد على خوارزميات تبحث عن كلمات مفتاحية محددة في السير الذاتية وتستبعد تلقائياً أي سيرة لا تحتوي على هذه الكلمات. هذا الواقع دفع أصحاب العمل إلى كتابة إعلانات وظائف تبدو أشبه بقوائم كلمات مفتاحية طويلة أكثر من كونها أوصافاً واقعية لمتطلبات الوظيفة. المفارقة المؤلمة هنا هي أن مرشحاً كفؤاً قد يمتلك المهارة والخبرة المطلوبة فعلاً، لكنه يُستبعد آلياً لأنه لم يستخدم المصطلح التقني الدقيق الذي تبحث عنه الخوارزمية.

الشهادة فلتراً اجتماعياً

ظاهرة تضخم الشهادات، أو ما يُعرف ب Credential Inflation، أصبحت واضحة بشكل مثير للقلق في سوق العمل الفلسطيني. وظيفة كانت قبل عشر سنوات تتطلب شهادة دبلوم أصبحت اليوم تتطلب شهادة بكالوريوس، ووظيفة كانت تكتفي بشهادة بكالوريوس أصبحت تشترط شهادة ماجستير، وهكذا في سلسلة تصاعدية لا تنتهي. لكن السؤال المهم هو: هل طبيعة العمل فعلاً أصبحت أكثر تعقيداً بحيث تستدعي هذه الشهادات الأعلى؟ أم أن الشهادات أصبحت تُستخدم كأداة فرز اجتماعي لتضييق نطاق المتقدمين؟

الإجابة في أغلب الأحيان هي الأخيرة. كثير من أصحاب العمل يرفعون متطلبات الشهادات ليس لأن الوظيفة تتطلب ذلك فعلاً، بل كوسيلة سهلة لتقليل عدد المتقدمين وتسهيل عملية الفرز. في سياق فلسطيني يتميز بارتفاع نسبة حملة الشهادات الجامعية – التي تُعتبر من الأعلى في المنطقة – أدى هذا إلى تضخم اصطناعي في المتطلبات لا علاقة له بالاحتياجات الفعلية للوظيفة. النتيجة هي أن خريجاً حديثاً بشهادة بكالوريوس ممتازة قد يُرفض لصالح مرشح آخر بشهادة ماجستير، حتى لو كانت خبرته العملية أقل، لمجرد أن المتطلب الشكلي يقول “ماجستير مطلوب”.

ما نعيشه اليوم في سوق العمل الفلسطيني ليس مجرد مشكلة في طرفي العرض والطلب، بل أزمة بنيوية متشابكة الجذور تتغذى من تضخم المتطلبات، وتراجع الاستثمار المؤسسي في التدريب، وتفاقم الاعتماد على الشهادات كمعايير شكلية بدل الكفاءة الفعلية. استمرار هذه الديناميكية سيقود إلى مزيد من البطالة المقنّعة وهدر الطاقات، ما لم تُتخذ خطوات جذرية لإعادة التوازن.

في المحصلة، المطلوب اليوم ليس فقط تطوير مهارات الخريجين، بل إعادة تعريف العلاقة بين التعليم وسوق العمل، وابتكار آليات توظيف أكثر عدالة ومرونة، وإعادة إحياء فلسفة الاستثمار في الموارد البشرية داخل المؤسسات. عندها فقط يمكن تحويل سوق العمل من متاهة مغلقة إلى مساحة واعدة تستثمر في قدرات جيل كامل وتعيد الثقة بين الباحثين عن عمل وأرباب العمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *