نابلس- مجلة البيت المهني

تواجه مؤسسات القطاع الصحي الفلسطيني، الأهلي والخاص، أزمة مالية خانقة نتيجة تراكم الديون المستحقة لها على الحكومة ووصولها لمستويات غير مسبوقة، وعدم التزام الحكومة بتسديد الدفعات المالية لهذه المؤسسات بشكل منتظم.

وفي 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، رفع كل من اتحاد المستشفيات الأهلية والخاصة، واتحاد موردي الأدوية والتجهيزات الطبية، واتحاد الصناعات الدوائية، كتابا موقعا من الاتحادات الثلاثة، إلى رئيس الوزراء د. محمد مصطفى، حذرت فيه من انهيار وشيك في القطاع الصحي الأهلي والخاص بسبب عدم انتظام الدفعات الشهرية، وطالبته بسرعة التدخل لمنع هذا الانهيار.

ويشير الكتاب إلى ارتفاع حجم المديونية على الحكومة والذي تجاوز 2,866,000,000 (مليارين وثمانمائة وستة وستين مليون شيكل).

وعبرت الاتحادات الثلاثة عن قلقها البالغ حيال حالة التراجع الخطير في انتظام الدفعات المالية الشهرية المستحقة للمستشفيات والموردين وفقا لما تم الاتفاق عليه مع وزارتي المالية والصحة في مارس/ آذار 2023، حيث لا يتم الالتزام بالدفعات المتفق عليها، لا من ناحية التوقيت ولا المبالغ.

ووفقا للكتاب، تم تسديد هذه الدفعات بشكل منتظم حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

وتعتبر الاتحادات أن هذه الدفعات، وعلى الرغم من ضالتها وعدم رضاها عن قيمتها، إلا أنها تشكل الحد الأدنى اللازم لضمان استمرارها بتقديم الخدمات الصحية، وتأمين توريد الأدوية والمستلزمات الطبية للمرضى في مختلف المحافظات، وأن تأخرها واختزالها الى النصف، في ظل التزامات مالية ضخمة ومتراكمة على المستشفيات والموردين، ينذر بانهيار حقيقي للقطاع الصحي الأهلي والخاص خلال فترة وجيزة.

وطالبت الاتحادات رئيس الوزراء بإيلاء الاولوية في الانفاق لهذا القطاع الحيوي والهام والمحافظة على استمراريته بصرف واستيفاء جميع الدفعات الشهرية غير المنفذة منذ بداية العام الحالي، وتنفيذها من خلال نوفمبر/ تشرين الثاني بحد أقصى.

أزمة سيولة

وفي حديثه لـ”مجلة البيت المهني”، أكد الدكتور يوسف التكروري، رئيس اتحاد المستشفيات الأهلية والخاصة، أن تراكم الديون المستحقة على وزارة المالية انعكس بشكل سلبي وكبير على المؤسسات الصحية والموردين، ووضعها في مواجهة أزمة سيولة خانقة تهدد قدرتها على تغطية النفقات التشغيلية ودفع مستحقات العاملين وتوفير المستلزمات الأساسية.

وأوضح د. التكروري أن هذه المديونية تراكمت عبر سنوات طويلة، إذ لا توجد سنة لم يكن فيها دين لهذا القطاع على الحكومة، لكن في آخر 7-8 سنوات تفاقمت الأوضاع، وانخفضت نسبة التسديد.

وأشار إلى أنه وطوال سنتين ونصف السنة من جائحة كورونا، توقفت وزارة المالية عن التسديد كليا رغم استمرار تحويلات المرضى للمستشفيات.

وأضاف: “بعد انتهاء جائحة كورونا حاولنا التعافي من الأزمة وإعادة ترتيب الأوضاع المالية، فجاءت الحرب على غزة وما رافقها من عدم الالتزام بالتحويلات المالية”.

وبين التكروري أن اتحاد المستشفيات اتفق مع وزارتي الصحة والمالية على تسديد الدفعة الشهرية والتي تمثل 1.7% من مجموع المديونية لكل المستشفيات ليكون هناك عدالة بين جميع المستشفيات في الدفعات، وهذا هو الحد الأدنى الذي يمكن المستشفيات من الاستمرار في عملها وتقديم الخدمة، ومع ذلك لم تلتزم الحكومة بالدفعات الشهرية بشكل ثابت، فأحيانا تصرف دفعة كاملة، وأحيانا نصف دفعة، وهكذا.

استثمارات بلا عوائد

وأشار د. التكروري إلى استثمار المستشفيات الخاصة والأهلية مبالغ كبيرة ضمن رؤية وزارة الصحة لتوطين الخدمة الطبية في فلسطين، لكن ذلك لم يترجم إلى عوائد لهذه المستشفيات.

وقال: “في 2020 طلبت منا وزارة الصحة الاستثمار في الخدمات الطبية، خاصة بعد قرار الرئيس في 2019 بوقف التحويلات الطبية إلى المستشفيات الإسرائيلية وتوطين الخدمات، وبناء عليه فتحنا أقساما جديدة واستثمرنا بالأجهزة الحديثة والمتطورة، ووظفنا طواقم طبية واستقطبنا كفاءات، ووفرنا خدمات لم تكن متوفرة محليا”.

أضاف: “هذا الأمر زاد من الأعباء علينا، ولكن بالمقابل هذه الخدمات كلها كانت للتحويلات الطبية ولم تترجم زيادة في الإيرادات على أرض الواقع”.

تآكل الخيارات

وتجد المستشفيات وموردو الأدوية أنفسهم أمام خيارات صعبة في ظل نقص السيولة من جهة، ومن جهة أخرى الواجب الوطني الذي تفرضه طبيعة خدماتهم وحاجة الناس للعلاج.

ويقول د. التكروري: “نحن نقدم خدمات طبية، ولا نستطيع أن نقول للناس لا نريد أن نستقبلكم”.

وأوضح أن المستشفيات اتجهت نحو شراء احتياجاتها عبر شيكات آجلة تصل مدتها حتى 3 سنوات، لكن هذه الشيكات أصبحت تشكل عبئا كبيرا على المستشفيات مع تراجع إيراداتها وتوقف التحويلات المالية تقريبا من الحكومة، الأمر الذي أصبحت معه الشيكات ترجع بلا صرف.

ويضيف التكروري: “ترتبت علينا مديونية كبيرة لشيكات آجلة أصدرناها ولا نعلم كيف سنغطيها، إضافة إلى كمّ كبير من الشيكات الراجعة والمتراكمة على المستشفيات”.

وتابع: “لجأنا إلى الاقتراض من البنوك بضمان مستحقاتنا على وزارة الصحة، ووصلنا إلى الحد الأقصى من سقوف الاقتراض، لدرجة أن البنوك لم تعد تقبل بإقراضنا بسبب المديونية العالية”.

حوار دائم

وأشار إلى أن الاتحادات في حوار دائم وهناك جلسات مع الحكومة، ولكن الحكومة تقول إن الوضع الراهن والقرصنة الإسرائيلية على أموال المقاصة وعدم تحويل أموال المقاصة وتراجع الدعم الدولي للحكومة، كل ذلك أثر على قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها.

وقال إنهم بالمقابل أوضحوا على طاولة وزارة الصحة وزارة المالية أن مؤسساتهم استُنزِفت واستُهلِكت واستنفدَت كل مواردها.

وأوضح التكروري أن خيار وقف التعامل مع الحكومة مطروح على طاولة البحث، وسبق لاتحاد المستشفيات أن أوقف بيع خدماته للحكومة، “لكن نحن نتعامل من منظور وطني ونؤكد أننا مؤسسات وطنية ونعيش الهم الفلسطيني وهموم المواطن، ويقع على عاتقنا جزء من المسؤولية”.

وأضاف: “حتى الآن لن نلجأ إلى الذهاب لإضرابات أو وقف استقبال الحالات المحولة في ظل هذه الظروف نتيجة الوضع العام، ونحن نعتبر أننا أمام مشروع وطني ومشروع تحرر ويجب علينا جميعا أن نساهم في هذا المشروع، ونحن لا ننظر للأمر من منظور مادي بحت. نحن نعمل ضمن المنظومة الصحية الفلسطينية وضمن رؤية الدولة الفلسطينية وضمن رؤية توطين الخدمات الطبية داخل الوطن الفلسطيني”.

مقومات الصمود

وتابع: “لن نلجأ للإضراب، لكن السؤال المهم: هل سنستطيع أن نستمر بهذا الوضع؟”، وأكد ان أي صمود بحاجة إلى مقومات للصمود “ونحن فقدنا مقومات الصمود تباعا”.

وحذر من أن الخدمات الطبية في هذه المستشفيات يمكن أن تتوقف قسرا بسبب عدم القدرة على توفير الأدوية والأجهزة، والاحتفاظ بالكفاءات الطبية التي بدأت تفكر بترك مواقعها.

وختم د. التكروري حديثه بالتحذير من ضياع جهد كبير لتوطين الخدمات الطبية، وقال: “نحن معرضون لأن نخسر ما بنيناه مع الحكومة ضمن رؤية واضحة لتوطين الخدمات الطبية إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *