في زقاق صغير بمخيم قلنديا، وتحديدًا في شارع المعهد، يستيقظ كل صباح مقهى لا تتعدى مساحته 24 مترًا مربعًا، لكنه يحتضن قصة بحجم الجبال. هنا، بين الجدران الضيقة ورائحة القهوة، يعيد شاب مقدسي رسم ملامح الحياة التي سلبها المرض ذات يوم.
محمد علي خالد شويكي، شاب في السادسة والعشرين من عمره، خريج كلية التمريض في جامعة بيرزيت، متزوج وطموح. لم يكن يتخيل يومًا أن مرضًا نادرًا يُدعى Phlegmasia alba dolens – حالة معقدة من التخثرات الدموية المرتبطة بتشوّه جيني في عامل التخثر Factor V Leiden – سيغير مجرى حياته إلى الأبد.
يروي محمد القصة وكأنها حدثت بالأمس:
“دخلت المستشفى على قدمي، لكنني خرجت على كرسي متحرك بعد ستة أشهر من العذاب والغيبوبة… فقدت ساقَي، وفقدت أشياء كثيرة كنت أراها بديهية في الحياة.”
كانت كل نتيجة فحص أسوأ من التي سبقتها، حتى بدت الحياة وكأنها تختبر صبره في كل لحظة.
ستة أشهر قضاها في غيبوبة طويلة، وحين أفاق، وجد والدته قد شاخت من القلق، وزوجته تتنقل بين الألم والرجاء، وعائلته كلها منهكة. لكن تلك الصحوة كانت نقطة التحول، اللحظة التي قرر فيها محمد أن يبدأ من جديد، لا لأجله فقط، بل من أجل كل من أحبه وتحمل الألم معه.
من دون أن يطرق أبواب المساعدات، قرر أن يبدأ مشروعه الخاص. باع سيارته، واستثمر في حلم صغير: مقهى سماه “ظِلّ”. لم يكن الاسم مجرد صدفة. بالنسبة له، الظل هو الشيء الوحيد الذي تغيّر بعد البتر، فانعكاس جسده لم يعد كما كان، لكن روحه بقيت ثابتة، صلبة، بل أشد وضوحًا.
يقول محمد:
“كل خطوة كانت تحديًا… التنقل، اختيار التجهيزات، التعامل مع الموردين… كنت أصرّ أن أنفذ كل شيء بنفسي، رغم صعوبة الحركة. بنيت المكان بحيث يكون مناسبًا للكرسي المتحرك، ووضعت خطة لكل تفصيلة.”
افتتح المقهى في 5 حزيران، بعد شهر واحد فقط من بدء العمل. استعان بخبرته السابقة كـ”باريستا”، وبشغفه الحقيقي للقهوة، التي يراها فعل حب لا مشروبًا فقط. وكان أول الزبائن من جيرانه وأهل المخيم، ممن لم يتوقعوا أن يروا محمد ينهض من بين الركام ليصنع شيئًا ينبض بالحياة.
“تفاجأوا… لكن الأجمل أن أول تعليق كان: القهوة طيبة!”، يقولها مبتسمًا.
اليوم، يجلس محمد خلف آلة القهوة في “ظِلّ”، يقدّم مشروباته بابتسامة واثقة. كل فنجان يحمل في طياته قصة انتصار على الألم. لا يوجه رسالته للشباب فقط، بل لكل من خذلته الحياة جسديًا:
“الإعاقة الحقيقية في العقل، لا في الجسد… الروح القوية قادرة على صنع المعجزات.”
ولا ينسى محمد أن يشير إلى رفيقة دربه، زوجته، التي كانت الداعم الأول في رحلته.
“هي ليست فقط شريكتي في الحياة، بل في هذا المشروع… كانت فكرة المقهى فكرتها، كنا نخبز أول دفعة كوكيز معًا في البيت، وأنا أرى نفسي مجرد مساعد لها. من دونها، ما كنت وقفت من جديد، ولو حتى على كرسي.”
قصة محمد شويكي ليست مجرد تجربة شخصية، بل شهادة حية على أن الإنسان قادر على إعادة بناء نفسه من بين الركام، لا رغم الألم، بل من خلاله. وبينما تمضي الحياة مثقلةً بالأزمات، يقف هذا الشاب المقدسي شاهدًا على أن القوة لا تُقاس بما فقدناه، بل بما نصنعه مما تبقى فينا.