تكرّس الشابة الفلسطينية إيمان حمدية (28 عاماً)، فنّها لتوثيق أكبر عدد من الزخارف الإسلامية في مدينة القدس، بمختلف أبنيتها وتراثها، الإسلامي والمسيحي، للحفاظ عليها، ونقلها للأجيال، وإعادة إحيائها بشكل عصري لتصبح جزءاً من الحياة اليومية.

تعمل إيمان على رسم اللوحات التي تصور مجموعة من الزخارف الهندسية الإسلامية في المسجد الأقصى، ثم تحويلها إلى لوحات فنية تُعرض بشكل عصري. وتقول إيمان إنها تعمل على توثيق أكبر عدد من الزخارف الفنية الهندسية الإسلامية التي تزخر بها مدينة القدس داخل السور القديم، وتحديداً في الأسواق، وفي المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، والمدارس، والأروقة، والأبنية المختلفة.

دراسة إيمان حمدية وعلاقتها بالفسيفساء

 

تتحدث إيمان عن بداية علاقتها بالفسيفساء والزخارف، وتقول إنها كانت في مشروع تخرجها في الجامعة بمدينة نابلس شمال الضفة الغربية، عندما حولت التغذية البصرية من تجوّلها في القدس، وذهابها المستمر إلى المسجد الأقصى الذي كوّن لديها ذاكرة بصرية أو خلفية عبر النظر للزخارف التي تحولت لمخزون من الأشكال في ذاكرتها. والبداية بالنسبة إلى إيمان كانت أيضاً من فكرة مشروع تضمنت إعادة إحياء الزخارف الموجودة على منبر صلاح الدين، داخل المسجد الأقصى، والاستفادة منها خارجه.

وهنا حللت إيمان الزخارف واختارت واحدة من تلك المستخدمة في المنبر، وعملت على إعادة إحيائها في وحدات الإنارة داخل المنازل، بطريقة معاصرة، وتضيف «ازداد تعلقي بالمسجد الأقصى، وبأسقفه، ونوافذه، حيث كان يشدّني بشكل كبير لدراسة الزخارف الإسلامية بشقيها، الهندسي والنباتي، والتي توجد على الفسيفساء والنوافذ الجصية والتخصص فيها».

 

تعلمت إيمان ترميم الفسيفساء في المسجد الأقصى، ثم توجهت لدراسة الزخارف بشكل علمي من خلال دورات خارج البلاد، ثم انضمت لمجموعة مملوك في مصر، درست فيها وأصبحت مدرّبة معتمدة لها في القدس للزخارف الإسلامية.

 

بدأت إيمان بنقل تجربتها للمهتمين بهذا الفن في القدس، وهنا توضح «هذا الفن ليس له صدى، والمصادر بشكل عام في العالم كله، قليلة عنه، لذلك توجهت إلى دراسة الماجستير المتعلقة بالدراسات المقدسية في جامعة القدس، للتخصص في النقوش الموجودة في المدينة العتيقة، ولأوثقها وأحلّلها، وأقدم مادة كاملة عنها للمهتمين». وتشير إيمان إلى أن الزخارف في القدس موجودة من الأسوار حتى داخلها، وكل حضارة مرّت على القدس تركت بصمة لها، داخل المدينة وخارجها، ومتخصصو الزخارف يميزون النقوش من أي الفترات التي مرّت على المدينة.

وتشكل النقوش والزخارف، بحسب إيمان، هوية ثابتة للمقدسيين «أنا استمتع بهذه النقوش، وبتحليلها، وأشعر باهتمام كبير، وأجد أفكاراً كثيرة في هذه النقوش؛ وأعيد إحياء التكوينات والأشكال التي أشاهدها، والتي غالباً ما تكون ميالة للاندثار؛ فأقوم بإحيائها للجمهور في القدس». وتمشي إيمان داخل أسوار القدس، وحاراتها، وتنظر إلى الزخارف والنقوش والمكونات الثقافية المختلفة، فهذا يخلق لديها إلهاماً تسعى لنقله إلى العالم في ظل عدم الاهتمام بهذه الزخارف.

زخارف المسجد الأقصى.. قصة حب

 

وتتحدث إيمان عن أهم تجربة خاصة بها كما تصفها، وهي تجربة الترميم في باحات المسجد الأقصى، الذي كان يحتاج إلى صبر، وتركيز، وجهد كبير لكن النتيجة كانت تستحق من خلال الفارق الذي خلقه الترميم. إذ تقدمت إيمان للمشاركة في ترميم الفسيفساء في المسجد الأقصى، وكانت واحدة من أربعة أشخاص للترميم في المسجد الأقصى بشكل مستقل

 

وتؤكد أنها قبل أن تتأهل لتصبح قادرة على ترميم جدار الفسيفساء، قامت بتدريب كبير داخل المسجد الأقصى، ولم يكن مصرحاً سوى لـ4 فنانين من المرمّمين بأن يصعدوا للسلالم الخاصة بالترميم والمسماة (سقائل)، وتؤكد «نجحتُ في أن أصبح من بين المرمّمين أيضاً».

كما تتحدث عن حظها السعيد الذي جعلها ضمن مشروع آخر خاص بترميم الفسيفساء في المسجد الأقصى، في عام 2017، حيث كانت من أوائل الفلسطينيين المشاركين في أعمال الترميم، بعد أن كان يتم قبل ذلك إحضار طواقم من إيطاليا، ومن خارج فلسطين، لتنفيذ الترميم داخل المسجد.

 

وتوضح إيمان أنها كانت تتسلق السلالم الخاصة بالترميم (السقالة)، الخاصة بترميم الفسيفساء، التي يتجاوز ارتفاعها 10 أمتار «لم أكن أتخيّل أن أكون قريبة من واجهات قبة الصخرة، والمسجد الأقصى التي كنت دائماً أراها من الأسفل، فكانت تجربة جميلة خلقت رابطاً بيني وبين الأقصى بشكل غير مسبوق».

 

وتشرح طبيعة عملها في قبة الصخرة والمصلى القبلي لترميم الفسيفساء والزخارف بإسهاب، وتقول إنه كان تجربة مميزة وتعلّمت عبرها مهارات جديدة و«في نهاية عملنا كل شخص رمّم قطعة أثرية يحصل على نسخة منها كهدية تذكارية يحتفظ بها في منزله».

 

«استوديو ألِف».. جسر بين الموروث الثقافي القديم والمعاصر

 

ولم تتوقف علاقة إيمان بالفسيفساء والزخارف عند هذا الحد، بل عملت على تأسيس مكان خاص بتدريب تعلّم الزخارف الإسلامية، والحِرف التقليدية، وأطلق عليه اسم «استوديو ألِف»، حيث يرمز الحرف «ألِف» في اللغة العربية للبداية.

 

وتقول إيمان إن الاستوديو «يهدف لخلق مجتمع واعٍ وواثق، يعرف هويته العربية الإسلامية المقدسية، ويشكل الاستوديو مساحة تشاركية للراغبين في العمل بين الماضي والحاضر، ولنقل خبراتنا إلى المواطنين المقدسيين، والباحثين الراغبين في مجالنا، ونرى في الاستوديو أنه يجب علينا خلق مجتمع واعٍ لهويته وثقافته، وبناء جسر ما بين الموروث الثقافي والواقع الحالي، وهي مساحة تشاركية لكل من يرغب في تقديم شيء للقدس، ولفلسطين، في مجال الزخارف الإسلامية الهندسية، والنباتية، والخط العربي».

ويهدف الاستوديو، بحسب إيمان أيضاً، إلى بناء جسر ما بين الموروث الثقافي القديم والمعاصر، وبين هويتنا العربية الإسلامية، وبين ما هو معاصر المختلط بالهوية الأوروبية والعالمية، فالاستوديو يخلق جسراً للمحافظة على هويتنا، ومواكبة الأعمال والإنتاجات الفنية المعاصرة.

 

كما يقدم الاستوديو أيضاً، زخارف إسلامية، هندسية ونباتية، وخطوطاً عربية، وسبل تطبيقها، إضافة إلى مساحة تشاركية لأي شخص، وتقول «تتوفر لدينا مكتبة توفر مصادر كتب في المجالات الفنية والثقافية، والاستوديو مساحة مفتوحة لأي ندوات أو أمسيات فنية وثقافية».

نجاح رغم الصعوبات

 

تعمل إيمان على إعادة الحياة إلى فن الزخارف الإسلامية لتصبح جزءاً من حياتنا المعاصرة واليومية، وتؤكد أنها نجحت في ذلك «رغم أن العمل بالقدس يحتاج لكثير من الوقت والجهد، وبناء مشروع شبابي في القدس ليس سهلاً بالمطلق، بدءاً من مستوى المعيشة المرتفعة والأجرة المرتفعة للحيز الخاص بالمشروع، واستقطاب الجمهور، وخلق رغبة لديه للحضور للاستوديو، والحصول على ترخيص من بلدية الاحتلال التي أجّلت افتتاحنا لثمانية شهور، فإصرارنا مكّننا من افتتاح المشروع الهادف بالأساس لخلق مجتمع واعٍ لهويته واستخدامها في أعماله».

 

فالزخارف، بحسب إيمان، هي هوية عربية إسلامية موجودة في كل زاوية في مدينة القدس «وهي هوية ثابتة لنا حول من كان هنا، والحضارات التي مرت على مدينة القدس، وأنا أكون سعيدة عندما أجد زملاء يتعلمون الزخارف في استوديو ألِف اليوم، ويدمجونها في الأزياء والموضة، أو في الفنون، أو في إنتاج الزخارف».

وتضيف «أقمنا معرضاً لعرض منتجات الاستوديو داخل مدينة القدس، شارك فيه كل الطاقم، حيث قدم المعرض منتجات مختلفة بطريقة عصرية، وقمنا بعملنا على مطبوعات، مثل ستكرز، وبوست كارد، وبوك مارك، وحقائب للشابات والشباب، وخرجنا بكثير من المنتجات التي حملت الزخارف والمنتجات، وعرضناها في معرض لمدة عشرة أيام في مركز يبوس الثقافي».

 

وتخللت المعرض أعمال فنية استُخدمت فيها الزخارف على السيراميك، والجلد، والخشب، وتم إنتاج مجموعة من الأواني المزخرفة، وحقائب اليد، وعلب الهدايا، والألعاب والإكسسوارات.

 

وشهد المعرض الذي سُمي «ترس القدس» إقبالاً غير مسبوق، خصوصاً أنه الأول من نوعه على مستوى القدس، وفلسطين، ونحن ثبّتنا هويتنا في القدس بأعمالنا الفنية، واستفدنا من خبرتنا في الحياة اليومية المأخوذة من الهوية العربية الأصيلة».

 

وتدعو إيمان الشبان للإصرار على العمل داخل مدينة القدس، مهما كانت الصعوبات، لأن الإصرار هو الذي يذلل الصعوبات، فمدينة القدس بيتنا، ومكان طفولتنا، ووجهتنا الأولى، وهي ألإلهام في العمل، وهي ألإلهام بالأفكار التي نخرجها، وهي شيء مهم داخلياً، ومحفز للشباب لارتباطهم الروحي بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *