بعد مرور قرن وثلاثة عقود على بنائه، لا يزال مقهى الهموز في نابلس القديمة يشهد على حقب تاريخية هامة في حياة الشعب الفلسطيني، فطرازه المعماري يحاكي صبغة المعمار الإسلامي القديم، وداسه العديد من الوجهاء، والأعيان، والسياسيين.

افتتح مقهى الهموز عام 1892 وعايش الخلافة العثمانية والانتداب البريطاني ومختلف المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، وفق مالكه أيمن الهموز وحفيد مؤسسه. 

ويبين أن المقهى لا يزال يحتفظ بمعالم بارزة تشير للعهد التركي، مثل البوابات والبناية، والراديو القديم الذي يدار على بطاريات السيارات وليس بالكهرباء كما هو معمول به حاليًا، وقد عاصر حقباً متعددة بدءًا من العهد التركي مرورًا بالاستعمار الإنجليزي، ثم الحكم الأردني وصولاً إلى عهد السلطة الفلسطينية. 

ويقول أيمن: “في الأربعينيات من القرن الماضي، كان رواد المقهى وزائريه من أعيان نابلس، ووجهائها يجتمعون ليستمعوا إلى إذاعة القرآن الكريم من العاصمة المصرية، والإنصات لصوت القارئ الشيخ محمد رفعت”. 

ويبين أن المقهى أقفل في عام 1940 لبضعة أشهر في العهد البريطاني، وتحول لثكنة عسكرية للجنود البريطانيين لمدة عامين في إثر وجود اضطرابات في المدينة، ثم أصبح المقهى مقرًا للدعاية في إطار الانتخابات البرلمانية الأردنية. 

ويلفت إلى أنه في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، كان المقهى معقلًا للمقاومة الشعبية، ومركزاً لاجتماعات للشباب والمناضلين، يجتمعون فيه لمناقشة النشاطات والمهمات التنظيمية وآليات توزيع المنشورات ضد الاحتلال. 

ويفيد أيمن بأن المقهى عمل خلال انتفاضة الحجارة كمقر لمدارس التعليم الشعبي، وهو أسلوب اعتمده الشعب الفلسطيني عندما عمد الاحتلال لتعطيل المدارس عبر فرض حظر التجول، حيث كانت تقام فيه حصص تعويضية لطلبة المدارس. 

ويذكر أن المقهى تحول كذلك إلى مقر للمحاضرات التعويضية لطلبة جامعة النجاح، حيث كانت الهيئة التدريسية تعقد الدوام الجامعي اليومي في أماكن عدة منها مقهى الهموز، وكانت توكل لمجموعة من الطلبة مهمة مراقبة محيط المقهى خوفًا من مداهمة الاحتلال، وهذا بهدف الحفاظ على حياتهم كطلبة جامعيين، وحرصاً على استمرار التعليم في الضفة الغربية. 

ويردف أن دور المقهى برز بوضوح خلال الإضراب الكبير إبان الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، حيث كانت مدينة نابلس سباقة وصاحبة المبادرة في تشكيل اللجنة العربية من أجل الإشراف على الإضراب. 

مقهى الطرابيش ويمضي بالقول: إن المقهى عرف قديمًا باسم “مقهى الطرابيش”، هو الأكثر تعبيراً عن شكل المقهى في فترة إنشائه. إذ كانت ترتاده الشخصيات النافذة والباشوات من نابلس وغيرها من المدن الفلسطينية، فكان وجهة للسياسيين والأدباء والشعراء والمفكرين أمثال: إبراهيم طوقان، وأكرم وعادل زعيتر، ومحمد عزت دروزة، وغيرهم من كبار الكتاب والمثقفين قديماً، بحسب أيمن. 

ويلفت إلى ارتياد المقهى مشاهير من أهل الفن، حيث غنت أم كلثوم أغنيتها الشهيرة داخل مسرح المقهى “يا بدر اختفِ”، أما فيروز فهي الوحيدة التي صدحت بصوتها على أعتاب المقهى، وغنت أمامه ولم تدخله. 

كما عُرضت العديد من المسرحيات والأعمال الفنية مثل مسرحيّة “حرب الأتراك مع البلغاريين” المقتبسة عن رواية أدبية. وجاء في ورقة الدعوة: “تلك الرواية الذائعة الصيت. الحربية، الدامية، الحماسية، ذات الفصول الخمسة والتي مُثِّلت في حيفا فأحرزت الإعجاب ونالت الفخر… مساء الخميس الواقع في 17 أيار 1934. والسلام على من سمع ولبّى الندا”.

 وكان في “الهموز”، وفق مالكه، مسرحاً كما العديد من مقاهي ذلك الزمان، لكن لم يعد موجودًا حاليًا، “هدمته بيدي قبل أربعين عامًا لأن النشاط المسرح انتهى وأصبح مهملًا، واستعضنا عنه بشاشات التلفاز وشبكة الإنترنت لمواكبة التطور المتسارع”. 

ويرى أيمن أن ما يميز المقهى عن غيره من المقاهي، موقعه وإطلالته الرائعة التي تجذب الزوار من كافة الفئات العمرية، مشيراً إلى أنه لا يزال يقدم “التمباك” الأصيل والمشروبات الساخنة والباردة، وأنه يحتفظ بتقديم القهوة بالركوة النحاسية العتيقة، ويقصده الزائرون من جميع أنحاء الضفة الغربية، وأراضي الـ 48، إضافة الى الوفود السياحية الأجنبية التي بات مقهى الهموز عنوانا لها. 

وطرأ على المقهى بعض التغيرات، فيتضمن اليوم مكاناً مخصصاً مكان للسيدات، فقديما كان عبارة عن قاعتين كبيرتين إضافة إلى منطقة مُشّجرة ليتسنى لروادها المجيء صيفاً وشتاء، وفق أيمن، مؤكداً أن عائلته ستصون المقهى وتورثه لأبنائها جيلاً بعد جيل، “لأنه مرآة لمدينة نابلس، وأحد رموزها، وأدفع عمري من أجل أن يبقى المقهى قائماً، هذه رسالة والدي من قبلي وهي ذات الرسالة أنقلها لأولادي”.