دكتور غسان نايف ذوقان
قسم علم النفس والإرشاد/ جامعة النجاح الوطنية – فلسطين
يحتل موضوع الصحة النفسية للفرد موقع الصدارة في العديد من المؤسسات على اختلاف مجالاتها سواءً كانت تربوية أو تعليمية او اقتصادية أو سياسية، وإنما يعود هذا الاهتمام لما يترتب على درجة الصحة النفسية التي يتمتع بها الفرد، وانعكاس ذلك على فاعليته الذاتية في الدائرة التي يتواجد فها، وعلى أدائه وتفاعله مع المحيط الذي يتواجد فيه .
وحري بنا قبل الخوض في الحديث عن أثر الصحة النفسية على العمل المهني، أن نوضح مفهوم الصحة النفسية. حيث يشير تعريف منظمة الصحة العالمية للصحة النفسية “بأنها حالـة من الراحة الجسمية والنفسية والاجـتماعية وليست مجرد عدم وجود الـمرض”.ويشير آخرون إلى الصحة النفسية ” بأنَّها حـالة دائمة نسبياً ويكون فيها الفرد متوافقا نفسياً ( شخصياً وانفعاليا واجتماعيا أي مع نفسه وبيئته ) ويشعر بالسعادة مع نفسه والآخرين ويكون قادراً على تحقيق ذاته واستغلال قدراته وإمكاناته إلى أقصى حد ممكن ويكون قادراً على مواجـهة مطالب الحياة وتكون شخصية متكاملة سوية ، ويكون سلوكه عادياً، ويكون حسن الخلق بحيث يعيش فى سلامة وسلام.”
ولا بد من الإشارة إلى ان مفهوم الصحة النفسية شأنه شأن بقية المفاهيم في العلوم النفسية والتربوية يعتبر مفهوماً ثقافيا ونسبياً، وهو متغير وليس ثابتاً، حيث يمكن أن يتغير التعريف من باحث لآخر، ومن بيئة لأخرى ، بل ربما يحدث التغير في مفهوم الصحة النفسية بسبب ما نكتشفه مستقبلاً عن أنفسنا وطبيعة سلوكنا والغايات التي نسعى لتحقيقها.
ومما لا شك فيه أن هناك علاقة قوية ووطيدة بين الصحة النفسية للفرد وبين حياته المهنية، فشخصية الفرد –بما فيها صحته النفسية والعقلية- ذات أثر كبير في كيفية تفاعله مع مهنته من ناحية، ومع بيئة العمل بكل مكوناتها من ناحية ثانية، كما أن ظروف العمل والعلاقات داخل المؤسسة التي يعمل فيها الشخص تترك آثارها الجلية والواضحة على صحته النفسية.
إن الشخص الذي يتمتع بصحة نفسية ممتازة، ولديه درجة عالية من تقدير الذات والرضا عنها، إضافة إلى مستوىً مرتفع من الثقة بالنفس، يضاف إلى ذلك اختياره للمهنة التي تتلاءم مع ميوله وقدراته النفسية والجسدية، كل هذه المواصفات تدفع إلى توقع كبير في أن يحقق هذا الشخص ذاته من خلال المهنة التي يعمل فيها، ويعطي مؤشراً قوياً على توافقه مع نفسه أولاً، ومن ثم مع زملاء العمل والمسؤولين في المؤسسة، وفوق هذا وذاك فإن توفر الصحة النفسية والخلو الاضطرابات النفسية على اختلاف ألوانها يزيد من الفعالية الإنتاجية للفرد. وانخفاض نسبة الغياب المرضي أو الغياب الطارئ غير المبرر والذي يعتبر وجهاً أخر من وجوه التهرب من الضغوط النفسية التي يعاني منها الشخص أثناء عمله.
إن درجة عالية من الصحة النفسية، وغياب مظاهر القلق والشك والتوتر ..وغير ذلك من الاعتلالات في الصحة النفسية، تعني استعدادا كبيراً للعمل بروح الفريق وتحت أصناف مختلفة من ضغط العمل، كما تعني بناء علاقات عمل مهنية إيجابية مع كافة المكونات الاجتماعية في بيئة العمل ومن كافة المستويات الوظيفية في المؤسسة. وهذا بحد ذاته يعتبر مؤشراً قوياً على توفر الرضا الوظيفي من ناحية، واعتزازاً واضحاً بالهوية المهنية للشخص المتوافق والمنسجم مع مهنته وبيئته المهنية، وبالتالي توافقاً إيجابياً مع الذات ومع الآخرين، وهذا بدوره أيضاً يرفع من درجة الصحة النفسية للشخص.
وليس من نافلة القول الإشارة إلى أن الإحساس بالثقة – كأحد مؤشرات الصحة النفسية- ووضوح الهدف، مع توفر دافعية عالية للإنجاز، جميعها تساهم ليس فقط في نجاح الشخص في مهنته، بل تطوير هذه المهنة والارتقاء بها، وربما بناء علاقة عاطفية – إن جاز التعبير – بينه وبين المهنة التي أحب والتي تحقق له تلك الأهداف المنشودة في طريق بناء مستقبله المهني والاجتماعي.
وعلى الجانب الآخر فإن الشخص الذي يعاني من اعتلالات نفسية، ولا يتمتع بالقدر الكافي من الصحة النفسية والعقلية، أو يفتقدها، وفوق ذلك يعمل في بيئة عمل غير آمنة، مع انعدام الأمن الوظيفي لا شك أن ذلك ستكون له مظاهره السلبية إلى حد بعيد على سلوكه المهني بشكل عام وحياته المهنية بشكل خاص ومن كافة الزوايا المرتبطة بوظيفته أو مهنته التي يمارسها.
إن نظرة فاحصة لسجلات إصابات العمل، والغيابات المتكررة لبعض العاملين في المهن المختلفة، والتفكير الدائم في الإجازات، وموعد التقاعد، والتنقل من مهنة إلى أخرى، جميعها مؤشرات على حجم الضغوط النفسية التي يعاني منها الشخص في مهنته. وكثيراً من هذه الضغوط مصدرها داخلي – أي الشخص نفسه- نتيجة الاضطرابات النفسية التي يعاني منها، وعدم قدرته على تحقيق التوافق النفسي الداخلي أولاً، وبالتالي عدم القدر على تحقيق التوافق المهني مع مهنته، واضطراب التوافق الاجتماعي في بيئة العمل، ومن ثم تدني مستوى فعالية الانتاج في إطار مهنته، لتكتمل الدائرة بضغوط نفسية خارجية مرتدة من واقع بيئة العمل، خاصة إذا كانت بيئة سلبية في ذاتها تشتمل على العديد من المخاطر على الصحة النفسية للعاملين مثل انعدام الأمن الوظيفي، وانعدام العدالة التنظيمية – الإدارية- في المؤسسة، ووجود تضارب بين متطلبات البيت مع متطلبات المؤسسة، وغياب الوصف الوظيفي الدقيق للوظيفة المسندة للشخص، وفوق ذلك وجود قيادة أو إدارة تقليدية لا تأخذ بعين الاعتبار الحاجات الإنسانية للعاملين مما يفاقم الضغوط النفسية على العاملين بشكل عام، وعلى فاقدي الصحة النفسية بشكل خاص.
إنه لمن الضرورة بمكان الإشارة إلى أن المسؤولية تجاه من يعانون من الاعتلالات النفسية والتي تعبر عن تدني مستوى الصحة النفسية لبعض العاملين، هي مسؤولية مشتركة للحكومات وأصحاب العمل، والمرشدين النفسيين في المدارس والمؤسسات المختلفة التي تعنى بالتوجيه المهني للأفراد، وإرشادهم للمهن التي تتوافق مع ميولهم وقدراتهم استنادا لمقاييس القدرات والميول المهنية بهدف التوجيه المهني السليم الذي يحقق مصلحة الجميع نحو بيئة عمل آمنة، وأشخاص يتمتعون بصحة نفسية عالية، مع توافق نفسي واجتماعي ومهني يؤدي في نهاية المطاف لتحقيق الأهداف المشتركة لكافة أطراف العملية الإنتاجية بغض النظر عن طبيعة المؤسسة.