سامر خويرة: صحفي فلسطيني
تهتم بحوث “ترتيب الأولويات” بدراسة العلاقة التبادلية بين وسائل الإعلام والجماهير التي تتعرض لتلك الوسائل لتحديد أولويات القضايا السياسية والاجتماعية التي تهم المجتمع.
ويفترض هذا المدخل أن وسائل الإعلام لا تستطيع أن تقدم جميع الموضوعات والقضايا التي تحدث في المجتمع، وإنما يختار القائمون على هذه الوسائل بعض الموضوعات التي يتم التركيز عليها بشدة والتحكم في طبيعتها ومحتواها، هذه الموضوعات تثير اهتمام الناس تدريجيا وتجعلهم يدركونها ويفكرون فيها، وبالتالي تمثل هذه الموضوعات لدى الجماهير أهمية أكبر نسبيا عن الموضوعات التي لا تطرحها وسائل الإعلام، وعملية الانتقاء اليومي لموضوعات قائمة أولويات وسائل الإعلام وأساليب إبراز أو طمس تلك الموضوعات، وتحريكها صعودا أو هبوطا لا تستهدف إثارة اهتمام الجمهور العام فقط، إنما هي عملية تستهدف –أيضا– صانعي القرار السياسي.
هذا من الناحية النظرية التي يتم تدريسها لطلبة الاعلام في الجامعات والمعاهد، لكن الاعلام الفلسطيني وخاصة ما يمكن أن نطلق عليه “الاعلام المُقاوم” -سواءً أكان فلسطينيا أم عربيا- حوّل النظرية إلى تطبيق، وفرض بالفعل أجندته ليس فقط على الجمهور المحلي أو العربي، بل على المستوى العالمي، وبالمحصلة تمكن القائمون عليه من اعادة ترتيب الاولويات لدى الجمهور المتلقي، وهذا ما برز جليا عقب عملية الحرب على غزة في السابع من أكتوبر-تشرين أول الماضي، رغم ان الراصد لهذا الاعلام يمكنه أن يدرك مدى التأثيرات المتتابعة له ، ودوره في اعادة ترتيب الأولويات، خلال العقد الأخير تحديدا.
علينا جميعا أن ندرك أهمية وخطورة المعركة الاعلامية الدائرة اليوم، وهي بنظري لا تقل تأثيرا عن المعركة الدائرة على الأرض، وأكبر دليل على ما ذهبت إليه، هي المتابعة غير المسبوقة للأحداث عبر وسائل الاعلام المختلفة، التقليدية منها والحديثة، فقد عاد للتلفزيون والفضائيات عزها، بعد ان غطت عليه “السوشيال ميديا، إلى درجة اعتقد البعض أن مصير الشاشة التلفزيونية سيكون مشابها للإعلام الورقي المطبوع. وطبعا وسائل الاعلام الجديد تحظى اليوم بنسب مشاهدات مرتفعة جدا، فبعض الفيديوهات القادمة من غزة مثلا قد يفوق عدد مشاهديها مئات الملايين، وتحظى تغريدة أو صورة بشيء مشابه. وهذا يؤكد أن هذا الحدث اعاد ترتيب الاولويات فعلا، وأزاح عن طريقه عشرات القضايا الهامشية والمعارك المصطنعة التي حاولت جهات عدة فرضها على الأجندة الاعلامية.
وإذا طرحنا السؤال الكبير، ما هي أولويات الاعلام الفلسطيني اليوم في ظل الأزمة الراهنة؟ سيكون الجواب كالتالي:
اعتقد أن أولى الاولويات اليوم وفي ظل هذه الأحداث الصاخبة هي “معركة الوعي”، هذه العبارة التي تندر عليها البعض كثيرا عندما كنا ندعو لها. اليوم أدركوا صوابية هذه الدعوة، بأن تكون هي الرسالة الاعلامية التي يجب الايمان بها، ونشرها واستقطاب الجمهور لها. وإذا كان الفهم هو تصور الشيء وإدراكه ومعرفته والإحاطة به بعد حدوثه، فالوعي هو الانتباه واليقظة ويكون على بينة بالأسباب والنتائج.
على الاعلام اليوم أن يعزز من الوعي الديني والقومي والوطني والوجداني بالقضية الفلسطينية، لمواجهة كل محاولات العدو تسطيح القضية وإظهارها أنها مجرد مواجهة بين طرفين، أحدهما (ويقصد بها حماس والمقاومة) بادر الاعتداء على أناس آمنين في بيوتهم (مستوطنات غير شرعية أقيمت عنوة فوق أراض فلسطينية)، والطرف الثاني المعتدى عليه الذي اضطر للرد. هذا التصور الماسخ لما جرى، وجب نسفه وتوعية القريب قبل البعيد بالأسباب الحقيقية والمآلات التي أوصلنا لها هذا العدو، بسبب جرائمه الممتدة منذ أكثر من خمسة وسبعين سنة.
الوعي بأن القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل قضية كل حر وشريف على هذه البسيطة. وها ما نجح به الاعلام المقاوم الذي واجه صعوبات جمة في الترويج لفكرته في ظل تحكم الاحتلال وتغلغله في وسائل الاعلام العالمية ذات التأثير الكبير. لكن صدق الرسالة ومضامينها التي صيغت بعناية فائقة قلبت المعركة لصالحنا، واحدثت اختراقا نوعيا في الوعي الجمعي العالمي.
وهنا الأولوية الثانية للجمهور، وهي التجند للدفاع عن الحق الفلسطيني في الواقع وفي الفضاء الالكتروني على حد سواء. وهذا ما نراه قد نجح وتحقق من خلال عودة الحديث عن القضية الفلسطينية في مختلف المحافل، وخروج مسيرات ضد العدوان الاسرائيلي في دول ومدن لم نكن نحلم مجرد حلم أن يرفع فيها العلم الفلسطيني أو تذكر فيها كلمة “المقاومة” يوما ما.
الدور الثالث المنوط بالإعلام القيام به في ظل هذه المعركة الفاصلة، هي توجيه الجمهور للضغط الحقيقي والجاد لإنهاء الانقسام الفلسطيني، على قاعدة المقاومة وليس على قاعدة المساومة. بمعنى أن التجربة الحالية وما سبقها من تجارب أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن النهج السياسي الرسمي لم ولن يحقق للفلسطينيين أيا من مطالبهم أو أن يُرجع لهم حقا مسلوبا من حقوقهم، وأن نسبة المؤيدين لهذا النهج في تراجع رهيب، بالمقابل بات الجمهور بغالبيته العظمى على قناعة بصوابية النهج الذي يطبق القاعدة التي تقول “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، وبالتالي فالإعلام مطالب اليوم وقبل الغد بتعزيز هذا النهج، لأنه يحوز على رضا ودعم وتأييد كبير من الفلسطينيين وفق كل استطلاعات الراي. لا يعني هذا الاقصاء ابدا، بل تشجيع العوامل التي تقرب وجهات النظر وتوحد الصفوف المتفرقة على نهج المقاومة، مع عدم اغفال اهمية الدور السياسي ايضا، ولكن من جديد على قاعدة القوة وليس الاستسلام.
لكن لماذا هذه الأولوية مهمة اليوم؟ بكل بساطة لأنها تواجه مصطلحا قريبا عليها لكنه على النقيض منها تماما، ألا وهو “كي الوعي” الذي تم العمل عليه لعقود للشعوب العربية والإسلامية والعالمية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إذ أنه في ذروة سنام التطبيع مع الكيان المحتل من الأنظمة العربية، ظن الاحتلال وحلفاؤه في الشرق الأوسط أن هذه المرحلة هي الأضعف على صعيد وعي الشعوب العربية والعالمية بالقضية الفلسطينية، بعد تراكم وتفاقم الأزمات الداخلية في المنطقة والعالم بما يصرف الأنظار عن الملف الفلسطيني.
الاعلام المقاوم يقع على عاتقه اليوم كشف زيف كل الدعوات للتقارب مع الاحتلال، على الصعيد الفلسطيني خاصة، والعربي عامة، وتعرية الداعين للتطبيع تحت حجج كثيرة واهية. فإذا كانوا يروجون ان الاحتلال هو واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، فأي واحة هذه التي تطفو على بحر من دماء الأطفال والنساء والعجائز. وإذا كانوا يرون في الاحتلال دولة متقدمة تكنولوجيا، فهذه التكنولوجيا تم توظيفها لتطوير الصواريخ التي تتهاوى على رؤوس أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل، والتي أيضا قضت على أي مظهر من مظاهر الحياة في قطاع غزة وحولته الى كومة من الحجارة والانقاض.
لو كان هناك متسع أكثر، لتحدثنا عن أدوار أخرى للإعلام في ترتيبات أولويات الجمهور في ظل المعركة الدائرة اليوم، لكن قبل الختام لا بد من التأكيد على ضرورة توظيف هذه المحنة والارتقاء بالأداء الإعلامي الفلسطيني والمراكمة على ما تم إنجازه، حينها يمكن لنا أن نقول إن المحنة انقلبت إلى منحة.