أ. نزار نزال، باحث ومحلل سياسي في قضايا الصراع
بدون أدنى شك، شكل الواقع في قطاع غزة تحد كبير للمؤسسات الدولية العاملة في المجال الإنساني في القطاع، خاصة أن هناك تدمير رهيب لكل البنى التحتية وتم قبر سبل الحياة هناك، ناهيك عن فقدان العناصر البشرية لهذه المؤسسات بفعل الحرب الدائرة هناك؛ فعلى سبيل محاولة إسرائيل إلغاء الأونروا شكل عبء إضافيا يضاف إلى الأعباء الضخمة الملقاة على عاتق المؤسسات الدولية، كما أن استهداف العاملين في هذه المؤسسات بالبارود والنار فاقم من الوضع المتأزم.
المؤسسات الدولية كانت تواجه مصاعب جمة قبل أحداث السابع من أكتوبر بسبب القيود الاسرائيلية وغياب اعتراف دولي بحكم الأمر الواقع في قطاع غزة، فما بالك بعد السابع من أكتوبر وطبيعة الحرب الدموية والمدمرة وسعي إسرائيل الى خنق القطاع والقضاء على الوجود الفلسطيني هناك وحرب التجويع المقصودة التي ترمي إلى قتل كل مسببات الحياة هناك، واستهداف أدوات المؤسسات من خلال قصف الشاحنات وارتكاب المذابح بحق الساعين للحصول على رغيف خبز.
في الواقع عمل المؤسسات اليوم في قطاع غزة أصبح شبه مستحيل في ظل الدخان والقصف المستمر، فلا مقرات بقيت ولا مخازن ولا مستقرات ناهيك عن انعدام وجود المواد التي أصبح دخولها إلى القطاع عبر المعابر شيء من المستحيل، وما يجري اليوم من عمليات انزال جوي للمساعدات يعطي مؤشر على أن هذه المؤسسات أصبحت مشلولة بالكامل ولا قدره لديها على التحرك بسبب التدمير لكل الوسائل المستخدمة في عمليات الإغاثة وخاصه وسائل النقل التي تعطلت، إما بفعل القصف أو بفعل نقص الوقود او بفعل الوضع الأمني الذي لا يسمح لهذه الوسائل بالتحرك بحريه إنما هناك قيود كبيره على كل حركة داخل القطاع.
المؤسسات الدولية من وجهة النظر الاسرائيلية أصبحت متهمة فيما جرى في السابع من أكتوبر، ومع شديد الأسف تم تبني وجهة النظر الإسرائيلية من قبل بعض الدول الداعمة لهذه المؤسسات، فعلى سبيل المثال ١٦ دولة علقت دعمها لمؤسسه الأونروا عندما ادعت إسرائيل أن عناصر في هذه المؤسسة شاركوا في الهجوم على غلاف غزة على الرغم من التشكيك في صحة الادعاءات الاسرائيلية وعدم تقديم أي دليل، إلا أن هذا التشكيك لم يشفع للمؤسسة وبقيت الدول الكبيرة والداعمة تحجب هذه المساعدات سواء المادية أو العينية، وهذا الواقع المرير عقد عمل المؤسسات وضاعف التحديات، ما جعل من المؤسسات عبارة عن هياكل لم يبق منها سوى الاسماء والذكرى الطيبة عما كانت تقوم به في السابق.
بتقدير الشخصي لن تجد هذه المؤسسات أرض خصبه أو بيئة جيده للعمل في القريب العاجل بسبب التدمير الكلي الحاصل داخل قطاع غزة وفي ظل الهجمة الاسرائيلية عليها، كما أن تعليق الدعم الأوروبي والعربي والامريكي سيلغي وجودها ولن تعد قادره مستقبلا على أداء دورها كالسابق، والجميع لاحظ طبيعة الإجراءات التي اتخذت في الفترة القريبة الماضية من قبل بعض النظم العربية وبعض الدول الاجنبية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية.
اذا كان هناك عوده لهذه المؤسسات إلى دورها في العمل الاغاثي، أعتقد أن ذلك بحاجه إلى قرار سياسي والأمر لن يقتصر على موضوع إنساني، لان إسرائيل أصبحت تفاوض على الهواء والاكسجين وشربة ماء من أجل الضغط على الفلسطينيين وضرب الحاضنة الشعبية، بالإضافة إلى إعدام سبل الحياه في قطاع غزة من أجل إيصال الناس إلى قناعه مطلقه بأن الحياه في القطاع أصبحت مستحيلة الأمر الذي يدفع المواطن الغزاوي للرحيل طوعا، حيث أن النخب في الدولة العبربة والطبقة الحاكمة لم تخف هذا الهدف الذي وجدت امكانيه تحقيقه ممكنه في ظل استثمار إسرائيل في الأزمات، ووجدت أن السابع من أكتوبر أعطاها حريه الحركة ضد هذه المؤسسات واعطاها الاريحية المطلقة بعيدا عن الضغط الذي ممكن أن تتعرض له من خلال المجتمع الدولي والدول التي تقيم علاقات دبلوماسية معها خصوصا المحيط العربي وبالتالي خلط الأوراق في هذه المرحلة جعل فكرة تفريغ قطاع غزه من السكان أمرا ممكنا وليس مستحيلا في ظل صمت مطبق ودعم مطلق وتواطؤ واضح.
إسرائيل اليوم تريد السيطرة واخضاع قطاع غزة للاحتلال المباشر والحكم العسكري، وهذا يعني أن الهواء الذي يدخل إلى القطاع سيكون تحت الأعين الاسرائيلية، هذا بالطبع سيحجم عمل هذه المؤسسات ويلغي دورها بل سيكون تفاصيل العمل الاغاثي كله بيد الدولة العبرية، وهذا الأمر واضح تماما من خلال التصريحات ومن خلال الإجراءات، فعلى سبيل المثال قيام بعض الدول العربية والأجنبية بإسقاط المساعدات جوا يعزز من هذه الفرضية، ويؤكد على تهميش دور المؤسسات الدولية وإلغاء وجودها وهذا ما تريده إسرائيل، هناك سؤال كبير إذا كان الاردن غير قادر على إدخال المساعدات عبر الشاحنات والمعابر فهل الولايات المتحدة غير قادره أيضا على إدخال هذه المساعدات والمواد الإغاثية عبر المعابر والشاحنات؟ إذن الهدف واضح والمغزى أكثر وضوح.
برأيي ما بعد السابع من أكتوبر شكل محطه مفصليه في العمل الاغاثي، وغيّر شكل المؤسسات الدولية، فإما أن تختفي بفعل وضع جديد في قطاع غزة وإما ظهور مؤسسات محليه تختلف في طبيعة امكانياتها وعملها، وإما إحلال مكان هذه المؤسسات أشكال أخرى تحت مسميات مختلفة وضمن عمل إنساني بحت غير مرتبط بالوضع السياسي، كأن يكون مؤسسات تعمل في الصومال وتعمل في غزة بنفس الأهداف وعدم ارتباط هذه المؤسسات بالوضع القائم في فلسطين تحديدا، وهذا ما تسعى له إسرائيل بالضبط، إسرائيل تريد مؤسسات تعمل في المجال الإنساني وغير مرتبطة بواقع القضية الفلسطينية.