للوهلة الأولى، لا تُظهر صيدلية عائلة أبو غزالة في أحد أحياء مدينة نابلس الحديثة “منطقة رفيديا” أي إيحاء للتاريخ الذي ترجع إليه، باعتبارها الصيدلية الأقدم في نابلس، فالمظهر الحديث لها لا ينم عن هذه العراقة، إلا إذا تجاوزت المكان المخصص للمترددين عليها لشراء ما يحتاجونه، إلى القسم الخلفي منها حيث تحتفظ العائلة بإرثها التاريخي، بل يمكننا التأكيد على أنه يمثل الإرث التاريخي للصيدلة في فلسطين.
ومن خلال صيدلية أبو غزالة يمكننا التعرف إلى التطور الذي طرأ على مهنة الصيدلة منذ أواخر العهد العثماني في القرن التاسع عشر، في نهايات العقد الثامن منه، حتى نهايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
صيدلية أبو غزالة في نابلس يبلغ عمرها 129 عامًا، وعاصرت خمس حقبٍ سياسيةٍ مرت على فلسطين
على أحد الرفوف قاروراتٌ تبرز تاريخ العائلة الصيدلاني، كل واحدةٍ مكتوب عليها اسم محضّر الدواء فيها، وعلى رفٍ آخر ميزانٌ لقياس كميات المواد؛ مكتوبٌ عليه تاريخ التصريح به في فترة الانتداب. وعلى رفٍ آخر مجموعة كتبٍ تختص بالطرق العلمية لصنع الدواء بلغاتٍ كثيرة؛ كالتركية القديمة “العثمانية”، والإنجليزية، والإيطالية والألمانية وغيرها، وسجلاتٌ باللغات العربية والإنجليزية والعبرية، في إشارة لكونه في فترة الانتداب البريطاني لتسجيل الوصفات الطبية الخطرة.
الحاج رحمي أبو غزالة أطلع يشرح التاريخ المنسي لمهنة الصيدلة في فلسطين، من خلال تاريخ عائلته الذي بدأ بجده طاهر أبو غزالة بعد تخرَّجه من جامعة اسطنبول في تركيا، وافتتاح صيدليته تحت مسمى صيدلية طاهر عام 1880، لتكون أقدم صيدلية في نابلس، وربما في شمال الضفة الغربية واستمر حتى عام 1917، وكان مقرها عند جامع الخضر في حوش أبو غزالة غرب البلدة القديمة.
هذه الصيدلية عاصرت نهايات الحقبة العثمانية؛ منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى خروج آخر جنديٍ عثمانيٍ من فلسطين، ودخول القوات البريطانية بقيادة الجنرال “اللنبي”. وبعد وفاة الصيدلاني الأول طاهر أبو غزالة، استلمها ابنه عز الدين الذي كان قد تخرج من جامعة اسطنبول، وأتقن سبع لغاتٍ وثلاث دراسات، “صيدلة، وكيمياء، وزراعة”.
نقل عز الدين: موقع الصيدلية من أطراف البلدة القديمة إلى قلبها في منتصف شارع النصر في نابلس، وأسماها “صيدلية الصحة”، وكان يساعده منير وفهمي، والد الحاج رحمي وعمه، اللذان كانا يدرسان في تركيا، وعندما سقطت البلاد بيد الانجليز في الحرب العالمية الأولى، اضطرا للهروب بحرًا والعودة إلى فلسطين، وانضما لأخيهما عز الدين في صيدلية الصحة، وكانا يعملان مساعدين قانونيين أيام الاحتلال البريطاني، الذي منحهما شهاداتٍ مصدقةٍ، وعملا في الصيدلية أكثر من 50 سنة، أي لغاية 1970.
في تلك الفترة كان الحاج رحمي قد أنهى دراساته العليا في فيينا وعاد إلى فلسطين حاملاً شهادة الماجستير في الصيدلة، وعمل مفتشًا في جنين لفترة، وبعد وفاة والده وعمه ترك عمله هذا واستلم إدارة الصيدلية خلفًا لهما حتى عام 1991.
وبسبب الانتفاضة الأولى ومنع التجول المستمر والطويل والضرائب الثقيلة التي أنهكت الصيدلية، اضطر رحمي لإغلاقها، وقد كانت السند الوحيد للبلدة القديمة آنذاك، وعاد إلى عمله الإداري مديرًا لمستوصفٍ، ثم مديرًا لمستودعٍ حتى تقاعده.
وبعد تخرج ابنه رجائي من إيطاليا وحصوله على “البورد” الإيطالي، قررت عائلة أبو غزالة عام 2010 إعادة إحياء إرثها وفتح الصيدلية مرة أخرى باسم صيدلية أبو غزالة ليديرها رجائي.
يقول أبو رجائي، “لازلت أحتفظ حتى اللحظة على الرفوف في صيدلية ابني رجائي بالأدوات التي كان أجدادي يستعملونها في ذلك العهد حيث كان الدواء يحضر داخل الصيدلية، وكان يستعملها جدي الذي كان يصنع الأدوية يدويًا وأكمل بعده والدي وأعمامي وأنا”.
ويبين، أنه قبل أن يتم تصنيع الدواء يدويًا، كان المرضى يقفون في الدور بانتظار تصنيع دوائهم، إذ كانوا يُحضرون الوصفة الطبية وعليها تعليمات الطبيب، فيحضر الصيدلي المواد الأساسية لهذه الأدوية بناء على تركيبة الدواء، ثم يخلطون المواد في الهاون لعجنها بالعسل، ويرشون عليها بودرة عرق سوس لتصبح الحبات الدوائية منفصلة عن بعضها البعض.
ويشير أبو رجائي إلى أن الاعتماد في عملية التصنيع على الكتب الخاصة بالصيدلية باللغات التركية والفرنسية والانجليزية، وكتب أخرى بلغاتٍ إيطالية وألمانية، وهذه الكتب محفوظة لدى العائلة حتى الآن.
كانت مهنة الصيدلاني سابقًا كبيرة وخطيرة، وكان الصيدلاني يقوم مقام الطبيب، يشخص ويعطي الدواء
وفي تقييمه لمهنة الصيدلة هذه الأيام يقول: “كانت مهنة الصيدلي سابقًا، مهنة كبيرة وخطرة؛ فأي خطأ في الخلطة الدوائية من الممكن أن يقتل المريض. كان الصيدلاني يقوم مقام الطبيب، وكان يشخص ويعطي الدواء ويعرف ما هي المواد اللازمة للمريض”.
ويتابع، “المصانع سرقت المهنة، وأصبحت هي من يجهز الأدوية ولها الربح الأكبر، فيما يتبقى للصيدلي ربح قليل، مقارنة بهذه المصانع”.
رجائي أبو غزالة المدير المسؤول الآن عن الحفاظ على إرث العائلة الصيدلي، يحدثنا عن تجربته في هذه المهنة ودوره في الحفاظ عليها قائلاً، إنه كان يحضر إلى صيدلية والده في بداية الثمانيات، إذ كان عمره حينها 12 عامًا، ويشاهد كيفية تركيب الأدوية في المكان المخصص لها داخل الصيدلية في الجزء الخلفي منها”.
كان أبو رجائي يحضِّر ما بين 15-25 دواء وكريمات يوميًا، حسب نجله رجائي، الذي بين أنه أحب مهنة الصيدلية إثر ذلك وتعلمها وأصبح يركب الوصفة الطبية، وبعد انتهاء دراسته للثانوية العامة عام 1989 سافر للدراسة في إيطاليا، وتخرج عام 1997، ثم عاد لاحقًا ليعيد فتح صيدلية أجداده ويكمل الطريق.
يقول رجائي: “أي صيدلاني لو فتح مختبر في صيدليته وأخذ يركب الدواء سيشعر بمتعة أن يكون صيدلانيًا حقيقيًا، أما اليوم فالصيدلاني يشعر كأنه مجرد بائع لا أكثر”، مضيفًا، “هناك مادة في الصيدلة اسمها تحضيرات صيدلانية، تدرس في كل الجامعات لكن تطبيقها غير موجود”.
صيدلية أبو غزالة بما تحمله من تاريخٍ طيلة خمس حقب، وبما تحويه من موجوداتٍ تمتلك قيمةً تاريخيةً عظيمةً، تلقي شيئًا من الضوء على مراحل من تاريخ العمل الصيدلي في فلسطين، الذي امتد طيلة 129 عامًا، عاصرت مراحل سياسية مختلفة، وتطورت مع تطور قوانين تنظيم المهنة، ما يجعلها جديرة بتعميم الفائدة منها أقله على أبناء المهنة، سواء منهم الطلبة أو الممارسين.