نابلس/ سلفيت- مضى أكثر من 12 ساعة ولم تبرح الحاجة بكرية عبد الله (أم عزيز) أرضها في سهل قريتها دير بلوط قرب مدينة سلفيت شمال الضفة الغربية، وظلت منذ بزوغ الفجر وحتى مغيب الشمس تواصل عملها بين قطف ثمار الفقوس وبيعها تارة والعناية بها تارة أخرى.
ملكات السهل الأخضر
على هذا الحال تقضي الثمانينية أم عزيز ومعها المئات من “ملكات السهل الأخضر وحارساته” -كما يطلق عليهن- أوقاتهن هذه الأيام، ويسارعن لجني ثمار تعبهن لأيام طويلة قضينها في حراثة الأرض وزراعتها، ففي مثل هذه الأوقات تطرح الأرض نتاجها من الفقوس والثوم والبقوليات والكثير من المحاصيل البعلية المتعددة.
وتجلس أم عزيز في الشارع الرئيس الذي يتوسط سهل دير بلوط بزيها التقليدي بانتظار المتسوقين الذين يعج بهم المكان هذه الأيام، لتبيع ما تبقى من منتوجها.
تقول: إنها قضت جُل عمرها في العمل بالأرض، أكثر من 30 سنة منه في أرض السهل.
وتضيف أم عزيز: “توفي زوجي قبل 33 عاما وخلَّف لي 11 من الأبناء، فكثفت وجودي وعملي بالسهل، الأمر الذي يوفر لي دخلا يعينني على شظف العيش وقسوة الحياة”، والأهم أن عملها ذاك تقول “واجب وطني” للحفاظ على الأرض ومنع مصادرتها.
كي لا تفقدها ثانية!
ولبضع ثوان صمتت أم عزيز وأشارت نحو مستوطنة “ليشم” وهي إحدى 3 مستوطنات تحاصر دير بلوط من الجهة الشرقية فقط، وتجثم على أرضها “عراق التوتة” في سفح الجبل.
وتقول: إن لها 12 دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع) صادرتها المستوطنة المذكورة التي تزحف فوق الأراضي تدريجيا “والخطر كله يحدق بالسهل، وغيابنا عنه سيجعله فريسة سهلة للاستيطان”.
واكتوت أم عزيز قبل ذلك بمصادرة الاحتلال أرضها غربي القرية، والتي قدرتها حين تحدثت بلهجتها بأنها “تعدل بذار 60 قنطارا من القمح”، أي أكثر من 100 دونم.
وأكثر ما تفتقده أم عزيز بعد أرضها التي تنظر لها بحزن هو رفيقات دربها في السهل اللواتي رحلن، وتواسي نفسها بمن تبقى منهن وأخريات من الجيل الحديث بتن يشتغلن بالأرض ويطورن الزراعة فيها ويعملن على تنويعها أيضا.
ومن هؤلاء السيدات كانت ميرفت تفاحة (أم محمد) التي امتهنت العمل بالأرض منذ تزوجت في دير بلوط قبل 19 عاما وهي التي لم تعمل بالفلاحة من قبل، لكنها أحبت الأرض ورأت بها فرصة جيدة للعمل.
تقول تفاحة -وهي أم لـ5 أولاد- إن البيئة المحيطة حفزتها للعمل بالأرض لا سيما أن السهل يعج بالنساء بينما ينشغل الرجال في أعمال أخرى، كما يفعل زوجها إبراهيم الذي يعمل داخل الخط الأخضر ويساعدها بأوقات فراغه هذه الأيام.
وتضيف -بينما كانت تقطف ثمار الفقوس تمهيدا لبيعها للمتسوقين الذين يقصدون القرية يوميا في هذا الوقت- “عملنا بالأرض ليس مهمة وطنية فحسب، بل مقدس وشرف ومقاومة لا تقل عن الذين يقدمون أرواحهم فداء للوطن”.
400 ملكة في السهل
وتعمل أكثر من 400 امرأة فلسطينية من دير بلوط في السهل، خاصة في زراعته بشتى الثمار وأهمها الفقوس، وهو عمل تتميز بها النسوة هناك أكثر من غيرهن بالضفة الغربية، فضلا عن العشرات اللواتي يعملن بقطاعات مختلفة والوظيفة العمومية.
ومن “حارسات السهل” هدى مصطفى (أم ليث) والتي تقابل أرضها مستوطنة ليشم مباشرة، وتعمل بها ساعات طوالا لتعيل وزوجها الموظف سبعا من البنين.
وتقول إن العمل في السهل يتجاوز الدور الوطني والتصدي للزحف الاستيطاني إلى “حب الأرض وعشقها”، وأنهن لأجل ذلك يتحملن كل الصعاب لا سيما أشعة الشمس وتقلبات الجو التي تؤثر على المحصول والخنازير البرية التي يطلقها المستوطنون وغير ذلك.
ورغم أنه لم يكن لدى أم ليث التي انتصف عقدها الخامس متسع من الوقت، فعليها أن تجني بقية ثمار الفقوس وتغتنم انتشار الزبائن، تحدثت قائلة: “أعمل بالأرض منذ كان عمري 16 عاما، وكان لدي مشغل خياطة، فضلا عن تربية الأولاد، وهذا حال معظم نساء دير بلوط اللواتي يوزعن أعمالهن بين الوظيفة والسهل وأشياء أخرى”.
لوحة فنية خضراء
توارثت المرأة البلوطية العمل بالسهل، وكثير منهن تربى فيه، وهو ما حوَّله وفق عبد الله داود المشرف على الناشط الاجتماعي بقرية دير بلوط “للوحة فنية خضراء هي الأولى والوحيدة بمحافظة سلفيت”، ويضيف أن عدم خجل المرأة من العمل عزَّز صمودها بالسهل وحمايتها للأرض من غول الاستيطان.
ومن 36 ألف دونم هي الإجمالية لدير بلوط صادر الاحتلال 15 ألف دونم عام 1948، ثم أتبعها بـ10 آلاف أخرى ضمها لصالح الجدار الفاصل عام 2004 ومستوطنة رأس العين الجديدة، ثم وضع يده على أكثر من 3 آلاف دونم لبناء 3 مستوطنات وحاجز عسكري أقيم منذ أكثر من 4 عقود في المنطقة الشرقية.
ومن نحو 8 آلاف دونم تبقى للقرية يصنف الاحتلال معظمها بمناطق “سي” ويخضعها لسيطرته الأمنية والإدارية، ومنها ألف دونم هي مساحة السهل الذي تعمل به أكثر من 400 امرأة لتعيل 500 أسرة في البلدة المقدر سكانها بـ5 آلاف نسمة.
ويعزو سمير نمر رئيس بلدية دير بلوط سر ارتباط المرأة البلوطية بالسهل لحاجته للدقة في الرعاية من حيث الحراثة والزراعة والعناية بالمحصول حتى جنيه، كما أنها منتجة وليست مستهلكة، وبالتالي تتحمل الأعباء وتقف إلى جانب الرجل، وهن يدركن أن وجودهن حماية للسهل.
مخططات يقابلها عمل
ولا تقف مخططات الاحتلال عند تحويل السهل لمطار، بحسب الأهالي، بل يعتبره “عمقا إستراتيجيا” للتوسع الاستيطاني كما يقول المسؤول القروي سمير نمر، لذلك فهو يعرقل ويعيق العمل به، ويمنع البناء فيه ورفده بخدمات البنية التحتية واستصلاحه، ويطلق الخنازير البرية للقضاء على المزروعات ودفع المزارعين للعزوف عن الأرض وتقليل الإنتاجية تمهيدا للسيطرة عليها.
وينتج سهل دير بلوط من 7-10 أطنان فقوس يوميا خلال الموسم الذي يتزامن مع هذا الوقت من كل عام، ويمتد لنحو 50 يوما. ويقع على عاتق المسؤولين في القرية تحريك عجلة التسويق، من خلال تنظيم مهرجان لذلك لاستقطاب الزوَّار.
المصدر : الجزيرة نت