تعتبر مهنة السقا من أهم هذه المهن القديمة في التراث الفلسطيني. وعرفت تلك المهنة بأنها كانت مطلوبة وسائدة في المجتمع الفلسطيني والعربي في فترات سابقة قبل إنشاء محطات وشبكات المياه الداخلية في المدن الكبيرة، ودخول المياه إلى البيوت.
وانتشرت مهنة السقاية خلال العهود السابقة، وكانت معروفة لدى الجميع، وتعتبر من المهن والوظائف المهمة في عصر الخلفاء والولاة المسلمين في فلسطين منذ الفتح الإسلامي، وكان للسقائين شيخ طائفة وأماكن للتجمعات وأخرى للسكن.
السقا وفق تعريف المؤرخين، هو الشخص المسؤول عن نقل المياه من الخزانات ونهر النيل إلى المساجد والمدارس والمنازل، وأسبلة الشرب العامة، وذلك لعدم وصول المياه إلى هذه الأماكن لخدمة الأهالي. وكان يتحمل الكثير من الصعاب من أجل توفير الماء للمحتاجين إليه، وكانت الأخلاق والأمانة هما رأس ماله.
ففي الماضي كانت بيوت القدس ومدينة الخليل تعتمد على السقا تماماً، فكان السقا هو مصدر المياه الوحيد في كل بيت، يجلب الماء من الآبار أو الانهار الجاريه او برك المياه كبركه سليمان في بيت لحم أما وسيلته لنقل المياه فكانت القرب المصنوعة من جلد الماعز، والمملوءة بالماء العذب، والتي يحملها السقاؤون على ظهورهم، وقد تكون الوسيلة برميلاً كبيراً مملوءاً بالمياه، ركبت فيه حنفيات من الخلف، وتجره الدواب كالحصان والحمار.
اختيار السقا واشتراطات المهنة
كان هناك اختبار مبدئي يلزم للمتقدم للعمل في مهنة السقا اجتيازه، لكي يلتحق بطائفة السقايين، وهو أن المتقدم لابد أن يحمل قربة وكيساً مليئاً بالرمل يزن حوالي 67 رطلاً لمدة ثلاثة أيام وثلاثة ليالي، دون أن يسمح له بالاتكاء أو الجلوس أو النوم.
كما كان يلزم أن يتصف السقا ببعض المواصفات، أهمها: أن يكون أميناً، وحريصاً على عدم تلوث المياه أثناء نقلها من النيل إلى المنازل وأسبلة الشرب العامة، وأن تكون القربة غير مصبوغة لكيلا تتلوث المياه باللون، ولا تكون بها أي ثقوب تنقص من كمية المياه.
وقد أمدتنا كتب الفقه والحسبة بالشروط العديدة التي يجب أن تتوافر في السقائين، حيث كان يحددها المحتسب ويطالبهم بها ويحاسبهم عليها، ومنها ملء الروايا والقِرَب من وسط النهر حتى يبتعد عن مواضع الأوساخ.
وأن يكون السقا رجلاً أميناً لا يخلط ماء النهر بغيره من المياه المالحة، ولا يتخذ راوية أو قربة جديدة حتى لا يتغير طعم الماء أو لونه أو رائحته من أثر الدباغة، وأن يكون لها غطاء ظاهر كثيف وساتر لها حتى يسلم الناس من تلويث ثيابهم. كذلك يجب أن تكون القربة خالية من الخرق، لأن الماء ينقص وهذا غش. ولا يملأ الماء بالليل لتعذر الاحتراز فيه، وإن فعل فعليه أن يزيد في الاحتياط. هذا إضافة إلى شروط عديدة في آداب السير في الطريق ودخول البيوت وفي الملبس أيضاً.
وكان عمل السقائين يخضع لرقابة محتسب المدينة، حيث خصصت لهم أرصفة في المناطق التي يقل فيها اندفاع تيار الماء. وكان يحظر على أصحاب المراكب أو أي إنسان آخر، منازعتهم في هذا الحق. وكانت مخالفة هذه الأمور تؤدي إلى السجن أو التعرض للعقاب الجسدي حسب ما يقرره المحتسب، الذي كان عليه أيضاً مراقبة السقائين والتأكد من أمانتهم ونظافتهم، ونقاء الماء الذي يجلبونه ونظافته.
وكان السقاة يصبون الماء للزبائن في أكواب معدنية يحملونها في أحزمتهم. ومعهم الجرس الذي يقرعونه للفت النظر إلى وجودهم، وفي حالة تزويد المساكن بالمياه، فقد كانوا يحملونها في براميل على ظهور الحمير.
اللافت للنظر أن السقائين لم يكن يقتصر دورهم على حمل المياه وتوصيلها للمنازل، بل لعبوا دوراً كبيراً في إخماد الحرائق، إذ كانت تؤخذ عليهم التعهدات باستعدادهم للحضور كلما دعت الحاجة إليهم ليلاً أو نهاراً. فكان هؤلاء السقاة يهرعون إلى إخماد نيران الحرائق، فإذا شب حريق في مكان ما، أسرعوا بقربهم وبراميلهم، وأعانهم في ذلك كل من كان عنده وعاء يستحق الذكر.
كما كان (السقا) يقوم بعملية رش الأسواق والأزقة الترابية، بغية تبريدها في فصل الصيف، ويعمل على توزيع الماء للعطشى من المارة مجاناً.. إلى جانب حرفته التي تدر عليه ربحاً زهيداً. وكان دور السقا الحقيقي يبرز في المناسبات كشهر رمضان والعيدين، وفي الموالد والأفراح والطهور (الختان)، فكان أهل الخير يمنحونه كسوة جديدة في الأفراح، ويقدمون له اللحوم في الأعياد.