بقلم: د. فيصل الصباح رئيس جمعية قفين الخيرية لمساندة التعليم
مقدمة
في الحافة الشمالية الأخير من الضفة الغربية تقع بلدة قفين شمال محافظ طولكرم ويعيش فيها زهاء 12000 نسمة. وهي في ذلك جغرافياً بعيدةً عن مراكز صنع القرار والتأثير ربما فيه أيضاُ. ومن واقع التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالمجتمعات الفلسطينية ككل، وقفين جزءًا منها، برزت جمعية قفين الخيرية لمساندة التعليم كمنارة للإصرار المجتمعي وسعيه نحو التغيير وأخذ الدور المنوط بها وتغيير الصورة النمطية عنها كبلد بعيدة. تأسست الجمعية في منتصف عام 2021، مستندة إلى رؤية عميقة تعي بأن التعليم هو الركيزة الأساسية لنهضة المجتمعات، خاصة في المناطق التي تعاني من نقص في الموارد وتهميش على أساس مكاني. ورغم كل المعيقات فإننا نؤمن بأن الجمعيات الخيرية في مجتمعاتها تُعد محركًا ديناميكيًا في دفع عجلة التغيير المجتمعي، فهي تجمع بين المرونة والقدرة على استيعاب التحديات من جهة، والإبداع في استثمار الإمكانيات المحلية من جهة أخرى إذا ما حازت على ثقة المجتمع وعندما يتحقق لها ذلك، وتلاقي الدعم والاحتضان اللازمين من قبل المجتمع ومؤسساته، فإنها تصبح قادرة على إعادة تشكيل الواقع وتجاوز القيود التقليدية لتحقيق طموحاتها وتخرج من عباءة التنميط ومجرد وجودها كشكل لا يقدم بل يؤخر.
جمعية قفين الخيرية لمساند التعليم جاءت كنموذج وترجمة لهذه الديناميكية، حيث استطاعت في بيئة تصنف بعيدة عن مراكز صنع القرار أن تبني جسورًا بين طاقات المجتمع المحلي ومتطلبات التعليم العصري. فكانت استراتيجيتها ترتكز على تحويل العوائق إلى محفزات، وجعل التحديات دافعًا للابتكار والانتظار لتحويل أية فرصة إلى استثمار واقعي وقد نجحت في ذلك حتى الآن ونعول أننا سنواصل المسيرة بإيمان عميق بأنها وان تعطلت عجلاتها سنكون قادرين على اصلاح ما يفسدها وتواصل المسير ليس لشيء إلا لقناعة ذاتية ولقبول مجتمعي حيث الأهداف السامية والتطلعات الواعدة والمساهم في صنع القرار الذي نحن كما قلنا بعيدون عنه وتالياُ يتضح للقارئ كيف كان لنا ذلك.
فبعد مرور عامين فقط على تأسيسها، أثبتت الجمعية قدرتها على تحقيق نجاحات ملموسة، مما جعلها محط أنظار المؤسسات التربوية الوطنية، وعلى رأسها وزارة التربية والتعليم العالي. لقد عززت هذه النجاحات ثقة المجتمع بها، وأظهرت كيف يمكن للإرادة المجتمعية الواعية أن تكون أداة تغيير حقيقية ومُحفز نوعي نحو نهضة تعليمية، ليس فقط في قفين، بل كنموذج يحتذى به في القرى الفلسطينية الأخرى. حيث شكل نجاح الجمعية في مختلف مجالات عملها دافعاً للعديد من البلدان المجاورة وحتى البعيدة للاستئناس برأينا في كيفية تأسيس جمعيتنا وكيف بلورنا أهدافها وغيرها من الاستفسارات التي تؤكد اعتبارها كنموذج يقتدى به. وأدلل هنا بواحد من الأنشطة البارزة والتي كان للجمعية الدور الأساسي فيها بالتعاون مع مدرسة بنات قفين الثانوية ومديرية التربية والتعليم في مدنية طولكرم وكذلك وزارة التربية والتعليم الراعي دائماً والمشجع لكافة أنشطتنا وفق اعلى درجات التنسيق معهم. وهو تشكيل فريق للروبوت التعليمي وحصوله على درع البطولة الوطنية للروبوت في شباط من العام 2023، ومن ثم تمثيله فلسطين في البطولة العربية للروبوت في قطر في آذار من العام نفسه، وبعد ذلك وفي ذات العام من شهر نوفمبر لتمثيل فلسطين في البطولة الدولية للروبوت في بنما (وفي الأخيرة قررت وزارة التربية والتعليم الغاء مشاركة فلسطين فيها مع اشتداد الحرب على قطاع غزة). وحالياً يمثل فريق مدرسة بنات قفين الثانوية (New Horizon Quffin) فلسطين في المسابقة الدولية للروبوت المنعقدة في تركيا للفترة ما بين 28-30 نوفمبر من العام الحالي 2024. حيث لمع اسم الجمعية التي حققت منذ بدايتها نجاحات متتالية سبقت فيها فرق وأندية تأسست منذ سنوات. وهذا ينقلنا إلى ما يمكن أن نطلق عليه إرادة التعليم:
إرادة التعليم
ترى الجمعية في إرادة التعليم كالتزام عميق ومستدام بتحقيق تعليم متميز يقود إلى بناء جيل قادر على قيادة المجتمع نحو مستقبل مشرق. تنطلق هذه الإرادة من إيمان الجمعية بأن التعليم ليس فقط حقًا أساسيًا، بل أيضًا أداة لتحسين جودة الحياة وتعزيز التنمية الشاملة. وهذا ما يعكس ما يمكن تسميته بإرادة التعليم في فكر الجمعية وذلك عبر رؤيتها ومبادراتها التي تجمع بين الدعم العملي والمادي والنفسي والثقافي وأن التعليم القوي يُعد قوة دافعة للتغيير، تسعى لتعزيزها عبر استراتيجيات شاملة ومستدامة. وهذا ما جاء في استراتيجية الجمعية والتي تمت مناقشتها داخلياً ومن ثم مع إدارات المدارس في قفين وبعدها مع اركان مديرية التربية والتعليم في طولكرم وذلك للأعوام 2024-2026 ومرتكزاتها المُتنوعة والمُعبرة عن فكر إرادة التعليم وأهمها: تحسين البيئة التعليمية لضمان بيئة ملائمة للتعلم، وتقديم برامج مثل الروبوت التعليمي والبرمجة لتمكين الطلاب من مواكبة التطورات العالمية، وتعزيز التعاون مع المؤسسات المحلية والخارجية لتوسيع نطاق التأثير وتجنيد الدعم اللازم بلا كلل. وتنظيم معارض علمية وفنية ومسابقات لتعزيز الإبداع والابتكار، وكذلك تحفيز الطلاب والمعلمين عبر برامج تكريم تبرز إنجازاتهم وغيرها من نوافذ العمل المُعبرة عن توطين الإرادة وعدم استيراد انشطتها من خارج قفين. ومن هنا تُظهر إرادة التعليم فهمًا متقدمًا لدور التعليم في بناء مجتمعات مرنة قادرة على التفاعل مع تحديات العولمة والتغيرات السريعة. هذه الرؤية لا تُعبر فقط عن التزام الجمعية، بل تُبرز قدرتها على صياغة استراتيجيات تنبع من خصوصية المجتمع في قفين وتنسجم مع الاحتياجات العالمية، مما يعزز من الأثر والجدوى في تحقيق تحول تعليمي حقيقي. ما يقودنا إلى الدور المطلوب في إدماج المجتمع في تطوير التعليم.
إدماج المجتمع في تطوير التعليم
لا تقتصر مهمة الجمعية على تقديم المعرفي، بل تسعى إلى بناء شراكات مستدامة مع المؤسسات الشريكة في القطاعات لمختلفة والمجتمع المحلي وهم أساساً في نظرنا يُعتبرون جزءًا أساسيًا من عملية تطوير التعليم. حيث تمثل الجمعية جسراً بين المدارس وأسر الطلاب، حيث يتم إشراك أولياء الأمور في الأنشطة والفعاليات التعليمية، مما يعزز من التفاعل الإيجابي بين جميع الأطراف. على سبيل المثال، تنظم الجمعية ورش عمل تدريبية ليس فقط للطلاب، بل أيضًا للمعلمين وأولياء الأمور بهدف تحسين مستوى الفهم والوعي حول أحدث أساليب التعليم والتعلم. المشاركة المجتمعية في هذا السياق تُظهر أهمية العمل الجماعي في تحقيق الأهداف التعليمية. فقد أدركت الجمعية أن النجاح في تطوير التعليم لا يتحقق إلا من خلال تعاون المجتمع بأسره، بدءًا من المعلمين وصولاً إلى الطلاب وأسرهم وهذه الروح التشاركية تُعتبر من الأسس التي تقوم عليها أنشطة الجمعية. وعلى سبيل المثال كان تدريب الكوادر التعليمية على برمجيات الروبوت التعليمي من الامثلة الناجحة على ذلك بالإضافة إلى اشراك المجتمع المحلي بمختلف الورش الخاصة بالتعريف بالروبوت التعليمي، والورش الخاص في البناء المجتمعي القويم كأمثلة. وندوات مثل الندوة الخاصة باختيار التخصص الجامعي لطلبة الثانوية العامة. هذا يضاف إلى تسليط الضوء على المعلمين المتقاعدين وتوثيق خبراتهم عبر مقابلات مصورة ومكتوبة ليساهموا وهم في بيوتهم في تقديم خبراتهم للاستفادة منها في تطوير التعليم.
الفرص التشجيعية والتعليم المساند
أولت الجمعية هذا المسار اهتماما خاصاً وتعمل على استثمار كل فرصة لتقديم الدعم والإسناد الأكاديمي اللازم للطلبة، وقد نفذت الجمعية منذ تأسيسها ثلاث دورات للتعليم المساند للصفوف العليا والدنيا، ويجري حالياً التحضير لتنفيذ أكبر برنامج للتعليم المساند وذلك بالتعاون مع مؤسسة الرؤيا الفلسطينية والذي سيبدأ تنفيذه في منتصف ديسمبر من العام 2024.
ويتمثل النهج الإسنادي الثاني في تنظيم ورش عمل منها لطلبة الثانوية العامة تحت عنوان المسار المهني في محاولة لتمكين وتحفيز الطلبة على التفكير الايجابي في حل المشكلات والتحديات التي تواجههم في تحديد توجهاتهم المستقبلية والتي لاقت تفاعلاً واضحاً من قبل الطلبة وهم غير متعودون على مثل هذه اللقاءات في بيئة بعيدة عن الحراكات الحضرية الكبيرة حيث المناقشات والمؤتمرات وغيرها من الأنشطة المؤثرة في المسار الفكري للطالب. وتنظر الجمعية إلى مثل هذه اللقاءات بكثير من الأهمية في ظل الضغوطات التي يواجهها الطلبة في فترة حرجة من حياتهم. ويأتي النهج الإسنادي الثالث ليركز على تكريم الطلبة المتفوقين على مستوى كل مدرسة، مما يساهم في خلق بيئة تشجيعية تحفز الآخرين على بذل المزيد من الجهد لتحقيق النجاح. وكذلك تكريم الطلبة الناجحين بامتحان الثانوية العامة.
التحديات والطموحات المستقبلية
رغم النجاحات التي حققتها الجمعية، والطموحات التي تخطط لتحقيقها إلا أنها تواجه تحديات عديدة. من أبرزها محدودية التمويل، وعدم وجود بنية تحتية تعليمية كافية لدعم المبادرات التكنولوجية والتعليمية وعدم وجود مقر للجمعية ونعتمد على الاجتماعات في غالبها في واحد من بيوت أعضاء الجمعية. وفي أنشطتنا على قاعات المساجد وبعضها في قاعات المناسبات. ومع ذلك تعمل الجمعية لتجاوز العقبات المختلفة من خلال تضافر جهود أعضائها، وأصحاب الأيادي البيضاء من أبناء قفين. إن الطموحات المستقبلية للجمعية تتجاوز مجرد تقديم الدعم التعليمي والتكنولوجي، بل ستوجه جهودها نحو بناء مجتمع تعليمي متكامل يعتمد على التعاون بين الأفراد والمؤسسات، وتوسيع نشاطاتها لتشمل برامج تعليمية متخصصة وخاصة في مجالات الابتكار والبرمجة، إلى جانب المزيد من الأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تعزز من قيم التعليم في المجتمع.
ختاماً يمكن القول بأن الجمعية تمثل نموذجًا حيًا وملهمًا لكيفية إدماج المجتمع في عملية تطوير التعليم. من خلال جمع الإرادة التعليمية مع دعم المجتمع، استطاعت الجمعية أن تخلق بيئة تعليمية تشجع على الابتكار، وتحفز الطلاب والمعلمين على تحقيق المزيد من الإنجازات. إن هذا النموذج يُظهر أن التعليم لا يتوقف عند حدود الصفوف الدراسية، بل هو عملية مستمرة تتطلب تكاتف المجتمع بأسره. واذ ننتهز فرص كتابة هذا المقالة لمجل البيت المهني، لتوجيه الشكر لهم حيث تثار فيها العديد من القضايا والملفات النوعية الهادفة والتي يمكن الاستفادة منها بلا شك خاصة في التشبيك مع المؤسسات والمبادرات الناجحة. والشكر أيضاً نقدمه إلى الشركاء أولاً الداعمين لأنشطة الجمعية من أبناء قفين الأوفياء، والشكر أيضا لوزارة التربية والتعليم وكافة أذرعها في محافظة طولكرم من مديري ومدارس على رعايتهم ودعمهم لرؤية الجمعية، والشكر أيضاً لبلدية قفين المؤسسة الأولى دائماً.