بقلم: بهاء الدين سعدي القواسمي

من قلب المشهد الفلسطيني المثقل بالمعاناة والأزمات، وفي ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الخانقة التي تواجهها فلسطين، يكتب الفلسطينيون قصصاً عن إرادة الحياة، يحولون الألم إلى إبداع واليأس إلى أمل، ومن وسط الركام يثبت الفلسطينيون أن الإبداع هو سلاحهم في مواجهة الظلم، وأن تحويل الألم إلى أمل هو خيارهم الدائم، وفي خضم القتل والإبادة والتدمير والتهجير القسري، تظهر الصناعات الفلسطينية والمهن التقليدية كأحد أعمدة الصمود. من قطاع غزة الجريح إلى كل ركن في الوطن، يثبت الفلسطيني أن الاعتماد على النفس ليس مجرد خيار، بل هو فضيلة تُترجم إلى إنجازات تُقاوم المحو والتشريد. حيث يتحول الإنسان إلى صانع للحياة، يعيد بناء ما استطاع إليه سبيلا ويبتكر ما يفتقد.

الإبداع الفلسطيني ليس وليد الظروف فقط، بل هو امتداد لجذورٍ عميقة من العطاء والتضحية، على مر العقود كانت فلسطين مهد الإبداع الذي لا يقتصر على الفنون والثقافة والابتكار، بل يمتد إلى هندسة البقاء وصناعة المعجزات في مواجهة أقصى الظروف. لقد أثبت الشعب الفلسطيني أن الإبداع يمكن أن يكون سلاحاً فعالاً في مواجهة التحديات، فالنجاحات والمساهمات التي حققها الفلسطينيون على مر الزمان تظهر كيف يمكن للفكر الإبداعي أن يتغلب على القيود، ويقدم حلولاً جديدة ومفيدة تسهم في استمرارية الحياة وتمنحها معنى أعمق. لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، فإننا مدعوون جميعاً إلى التفكير بجرأة والعمل بجدية أكبر لنصنع غداً أفضل وأجمل.

 الصناعات والمهن التقليدية الفلسطينية ليست مجرد وسائل اقتصادية لتأمين لقمة العيش، وتوفير مصدر دخل للعائلات المنكوبة، وإحياء التراث الفلسطيني في وجه محاولات الطمس والتهويد، بل هي تعبير عن القدرة على الوقوف بثبات في وجه التحديات. في فلسطين وخاصة في قطاع غزة، حيث الحرب والحصار يشدد الخناق على كل موارد الحياة، تبرز أهمية هذه الصناعات والحرف التقليدية أكثر من أي وقت مضى، أصحاب الصناعات والحرف التقليدية وكذلك الحرفيون الفلسطينيون يتحدون الصعاب ويبتكرون وسائل جديدة للبقاء، مستخدمين مواد محلية ومتاحة لتحويل المستحيل إلى ممكن. على سبيل المثال، لجأ العديد من الحرفيين إلى صناعة الأواني الفخارية اليدوية رغم أن هذه المهنة تعود لآلاف السنين إلا أنها عادت إلى الواجهة من جديد للاستخدام في الطهي والتخزين خاصة في ظل انقطاع الكهرباء وندرة البدائل الحديثة، كذلك عادت النساء إلى التطريز اليدوي التقليدي كوسيلة لدعم عائلاتهن مادياً، وأيضاً برزت صناعة الصابون البلدي باستخدام زيت الزيتون المتوفر محلياً، الذي يشتهر بجودته العالية وفوائده الصحية، كبديل للمنتجات المستوردة التي يصعب الحصول عليها في ظل الحرب والحصار، ونتيجة لنقص البلاستيك والمواد الحديثة، عادت صناعة السلال والقش واستخدام الخشب  لصناعة الأثاث والأحذية وغيرها لتكون بديلاً مستداماً، ومن بين الأمثلة المبدعة أيضاً، ونتيجة للنزوح المتكرر، صمم العقل الغزّاوي محطة بترول متنقلة، من خلال صناعة ماكنة خاصة مع عربة تم تجميعها قطعة قطعة من الوسائل المتاحة في غزة. وقد أطلق البعض عليها اسم “المحطة النازحة”، لأنها تنزح مع النازحين وتواكب تنقلاتهم، في تجسيد حقيقي لقدرة الفلسطينيين على الابتكار والتكيف مع أشد الظروف.

 لم تقتصر العودة إلى المهن التقليدية على الحرف والصناعات اليدوية فحسب، بل شملت أيضاً الصناعات الغذائية. حيث اعتمد الفلسطينيون على أنفسهم في تلبية احتياجاتهم من الغذاء من خلال الزراعة المنزلية أو حتى الزراعة بين الخيام والركام. وبسبب ارتفاع أسعار الخضروات وشحها وندرتها، لجأ العديد من الغزاويين إلى زراعة محاصيل مثل البندورة، الفلفل، البطيخ، الشمام، الملوخية، الجرجير، اليقطين، القرع، وغيرها لتلبية احتياجاتهم واحتياجات أصحاب الخيم وجيرانهم. وبسبب ندرة الغاز والوقود، عادت العديد من العائلات إلى استخدام الطوابين التقليدية لإنتاج الخبز الفلسطيني، مما أعاد أجواء الحياة البسيطة التي عاشها الأجداد، ومن أجل توفير وجبات غذائية تخفف المعاناة اليومية، ظهرت مجدداً ما يسمى بـ”التكية”، وهي أماكن مخصصة لتقديم الطعام والوجبات الجاهزة مجاناً للمحتاجين.

وهي عادة متأصلة في التاريخ الإسلامي، حيث كانت التكايا تُدار من قبل أوقاف خيرية أو أفراد ومنظمات يخصصون أموالهم لخدمة الفقراء والمساكين. اليوم، تعتبر التكية رمزاً للصمود والتكافل الاجتماعي، وتجسد روح التضامن بين أبناء الشعب الفلسطيني، كما تمثل جزءاً من الحلول لتأمين الغذاء في ظل الأوقات الصعبة خصوصاً في ظل الحرب المستمرة.

تمثل عودة الصناعات والمهن التقليدية استجابة سريعة وذكية وفعالة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي فرضتها الحروب والحصار، هذه الجهود تتجاوز البعد الاقتصادي لتصبح انتصار معنوي ورسالة حضارية تعكس قوة الإنسان الفلسطيني وكذلك رسالة تحدٍ للاحتلال والعالم أجمع: أن الفلسطيني قادر على النهوض مهما اشتدت الظروف وسيعيد بناء ذاته ومجتمعه، مثبتاً أن الفلسطيني أقوى من القهر. رغم كل المحاولات لطمس هويته، سيبقى شامخاً، يصنع مستقبله بيده، ويؤكد حقه في الحرية والكرامة. لتظل الصناعات والمهن التقليدية الفلسطينية مرآة لروح الصمود والتحدي الذي لا ينكسر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *