في دكانه القريب من المسجد الإبراهيمي، يعيش الخمسيني نضال الفاخوري عالمه بالرسم على الفخار، يجوب بين تفاصيل الزخارف، ويصقل موهبته بتفانٍ واضح، لتُترجم ألوان وأشكال الفخار حكاية الفلسطيني، ومعاناته مع الاحتلال الإسرائيلي. 

 

ورث الفاخوري مهنة الرسم على الفخار أبًّا عن جدٍّ منذ أربعين عامًا، فقد كان والده يُجلسه إلى جانبه في أثناء عمله، يراقبه ويقلد ما يفعله حتى أتقن الصنعة.

 

ومنذ مئات السنين، احتضنت أرض فلسطين عائلة الفاخوري وأسرارها الفنية الجميلة، فحملت تراثًا ينبض بالحكايات والتاريخ العريق من جيلٍ إلى آخر، لتنتقل روح الفخار ومهارة صناعته عبر أجيال العائلة. 

 

التعلم بالممارسة

 

 يقول الفاخوري: “عائلتنا رمزٌ للمثابرة والحب العميق للفن والتراث، فمنذ أكثر من ستة قرون، عشنا وتنفسنا الفخار، وجعلناه جزءًا لا يتجزأ من هويتنا الفلسطينية، فبين أيدينا تولّدت قطعٌ فنية راقية، تحمل في طياتها قصصًا تنطق بمعاني الصمود والإبداع”.

 

وما يميّز الفاخوري عن غيره من رسّامي الفخار، أنه يصنعها ويشكلها ويرسم عليها بنفسه، فعلى يده يتحول الطين اللازب إلى قطعةٍ فنية تحمل اسم فلسطين أو كوفيتها أو حتى ألوان علمها الشامخ. 

 

موقع دكانه القريب من المسجد الإبراهيمي أكسبه رمزية وطنية فلسطينية، وجعلته محطّ زيارة لكثير من السيّاح والزائرين للمدينة، لكنه لم يخلُ من المنغّصات الإسرائيلية، ومحاولات إغلاق المحل وتقييد حركة الزبائن، وفق الفاخوري. 

 

ويعلّق: “الزبون الذي يريد أن يدخل دكاني، عليه أن يمر بخمسة حواجز، إضافةً إلى طلب إذنٍ للدخول إلى المكان”.

 

ويعمل في الدكان نضال وإخوته، لكن أبناءه ممنوعون من دخوله، ما دفعه إلى افتتاح محلًّ صغير بجوار بيته البعيد قليلًا عن “الإبراهيمي”. 

 

ويظهر الفاخوري تصميماً قويًّا لمواصلة رسالته الفنية التراثية، “علّمتُ المهنة لأبنائي، ليظلّوا الحرّاس الأوفياء لجمال تراثنا الفلسطيني، وليعلم العالم أن الفخّار ليس مجرّد تراث يُحتفظ به، بل هو رمزٌ للهوية والانتماء، يجب أن يتوارث بكل فخر واعتزاز”.

 

وبينما كانت أنامله تداعب قطع الصلصال، كريشة فنان محترف، خرج من تحت يده فخّارةٌ بصورة المسجد الأقصى، وأخرى عليها رسمة قبة الصخرة بعلوّها وقبّتها الذهبية الأخّاذة لكل قلب، مشيرًا إلى أن هذا العمل ليس بسيطًا، ولكنه يأتي مع التعلم والممارسة.

 

مراحل التشكيل

 

 وعن الخطوات التي يتبعها الفاخوري لترى قطعةُ الفخار النورَ، يحمل الطين الفخاري بيديه المغمّستين بالماء، ليبدأ بتشكيله على الهيئة التي يرغب عبر دولاب مخصص لهذا الغرض، ثم يضع ما صنعه في فرنٍ للتّجفيف، تصل درجة حرارته إلى 1100 درجة مئوية.

 

ويبين أن صنع الفخار يحتاج إلى نوعين من التربة، تراب الزمهرير، ولونه مائل إلى الأبيض، وتربة حمراء ويتم خلطهما مع بعضهما ووضعهما في حوض من الماء، وبعد ذلك يتم تصفية الخليط لتنقيته من الشوائب في حوض آخر، وهذه عملية تحتاج أسبوعين، مشيراً إلى أن عجينة الصلصال تنقع في الماء عامًا كاملًا قبل وضعها على عجلة تشكيل الفواخير.

 

وعندما يجفّ الفخار يبدأ نضال بنقش براعته في التفاصيل الفلسطينية، ثمّ يغطّس الفخارة في إناءٍ ممتلئ بمياه الزجاج ليعطيها لمعانًا وثباتًا في اللون، ومن ثم يعيد الفخار إلى الفرن على درجة الحرارة ذاتها ليكون بعدها جاهزًا للبيع.

 

 منغصات الاحتلال

 

 وعن أبرز الصعوبات التي تواجهه، يلفت الفاخوري إلى منع الاحتلال له من الدخول بسيارته إلى داخل شارع دكانه، ما يضطره إلى نقل المواد على عربة، إضافةً إلى صعوبة الحصول على الموادّ الخام المستخدمة في التصنيع والغير متوافرة في الخليل.

 

ويشير الفاخوري الذي يشتغل بهذه المهنة منذ 40 عامًا إلى تراجع نسبة المبيعات بالسوق مقارنة مع ما كان عليه الوضع قبل سنوات، فقد كانت جائحة كورونا سببًا لتوقّفهم عامين عن تصنيع الفخار بسبب قلّة الزائرين. 

 

ويلفت إلى أن الطين المستخدم في صناعة الأدوات المنزلية يُستورد من الخارج، أما عن طين الخليل فتُصنّع منه أُصص النباتات والزراعة، موضحًا أن الفخار قابل لجميع الاستخدامات وهو صحيٌّ للأكل وللشرب.

 

ويمضي الفاخوري إلى القول: “طموحي أوسّع شغلي، وأفتح في كل مدينة فلسطينية محلّ فخّار يحمل تراثها، ويثبت للاحتلال أننا لن نتخلّى عن تقاليدنا وتراثنا الذي يمثّلنا ويثبت أحقيتنا ووجودنا على هذه الأرض”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *