في أحد أزقة مدينة نابلس القديمة، وتحديدًا داخل ورشة صغيرة تفوح منها رائحة القطن والخيوط القديمة، يعمل أحد الحرفيين الفلسطينيين المتخصصين في ترميم الكوفية الفلسطينية يدويًا، في مهنة نادرة لا تُدرّ عليه مالًا وفيرًا، لكنها تحمي إرثًا ثقافيًا مهددًا بالاندثار، وتعكس روح الصمود الفلسطيني بأبسط الأدوات وأكثرها تعبيرًا عن الهوية.

الكوفية: أكثر من غطاء رأس

الكوفية الفلسطينية ليست مجرد قطعة قماش بالأبيض والأسود، بل رمز وطني ارتبط بالمقاومة والكرامة والذاكرة الجماعية. كثير من الفلسطينيين في الشتات يحتفظون بكوفيات آبائهم وأجدادهم، التي بليت وتقطعت مع الزمن، لكنهم يرفضون التفريط بها. وهنا يأتي دور “مرمّم الكوفية”، الذي يعيد الحياة لتلك القطع العزيزة، خيطًا بخيط.

بين خيوط الماضي وأدوات الحاضر

يعتمد هذا العمل على أنوال خشبية وأدوات نسيج تقليدية تُستخدم بدقة وصبر لإصلاح الخيوط الممزقة، واستعادة النقوش الأصلية. فلا يمكن إعادة تشكيل كوفية ممزقة إلا يدويًا، خصوصًا إن كانت مصنوعة بالنول التقليدي. بعض الكوفيات تصل من لاجئين في الشتات، طلبًا لإحيائها كذكرى لأب أو جد، أو لتعليقها في المنزل كتعبير عن الانتماء والحنين.

ترميم الذاكرة.. لا النسيج فقط

لا تقتصر أهمية المهنة على الجانب التراثي، بل تلعب دورًا عاطفيًا عميقًا. فكل كوفية مرمّمة تحكي قصة عائلة أو نكبة أو مقاومة، وتعيد ربط الإنسان بجذوره. وهي تذكير حي للأجيال الجديدة بأن الهوية ليست شعارًا، بل تفاصيل محفوظة بخيط وإبرة.

تحديات تهدد الحرفة

رغم رمزيتها، تواجه المهنة تحديات عديدة:

  • غياب من يحمل المهارة أو الرغبة في تعلمها.
  • شح المواد الأصلية المطابقة للنسيج التقليدي.
  • طغيان المنتجات الصناعية السريعة والرخيصة.
  • ضعف الدعم المؤسسي للحفاظ على هذا النوع من الحرف اليدوية.

مبادرات للحفاظ على الحرفة

بدأت بعض المراكز الثقافية الفلسطينية بتوثيق هذه الحرفة النادرة وإطلاق ورش تعليمية للشباب، فيما يجري التفكير بإنشاء أرشيف مرئي للكوفيات المُرمّمة، يوثق القصص المرتبطة بها، كمحاولة لحماية هذا الفن من الاندثار.

ترميم الكوفية الفلسطينية ليس مجرد حرفة بل مقاومة هادئة، تحارب النسيان وتُبقي رموز الهوية حيّة. في عالمٍ يطحن التفاصيل، تبقى خيوط الكوفية القديمة المُرمّمة خيطًا يربط الماضي بالحاضر، ويحمل في داخله نبض الوطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *