بقلم المهندس وسام عمرو
شكلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة آثارا سلبية كبيرة على الساحة الاقتصادية في فلسطين على جميع القطاعات بما فيها القطاع الخاص؛ والذي يبلغ عدد العاملين فيه حسب مركز الإحصاء الفلسطيني حوالي 522 ألفا بواقع 349 ألفا في الضفة الغربية و173 ألفا في قطاع غزة، ويقدر عدد منشآت القطاع الخاص في فلسطين نحو 176 ألف منشأة موزعة بواقع 56 ألفا في قطاع غزة و120 ألفا في الضفة الغربية. ذكر بيان مركز الإحصاء الفلسطيني بأن مجمل الخسائر في القطاع الخاص بلغ 1.5 مليار دولار منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر الماضي؛ بمعدل 25 مليون دولار هو متوسط الخسائر اليومية لهذا القطاع نتيجة استمرار الحرب وسياسات الإغلاق المفروضة على الضفة الغربية، حيث تشير التقديرات بأن 29% من منشآت القطاع الخاص بالضفة قد تأثر عملها وانتاجها بالتوقف والتراجع.
ومنذ بداية الحرب شددت إسرائيل من حصارها للمدن الفلسطينية وزادت من نقاط التفتيش والتي قدرت بحوالي 650 نقطة تفتيش بين دائمة ومتنقلة، قطعت اوصال وعزلت المدن الفلسطينية عن بعضها وعرقلت وصول الكثير من المواد الأساسية الخاصة للبناء كالحديد والإسمنت وغيرها، وكذلك المواد الخام الخاصة للصناعة مما زاد كلفتها وكلفة النقل وقد ساهم ذلك مساهمة واضحة بتجميد كثير من المشاريع وتأجيل مشاريع أخرى وتأخير بعضها الأخر. مع العلم أن الاقتصاد الفلسطيني يعاني أصلا قبل الحرب من كثير من القيود والعثرات والأزمات منذ جائحة كورونا وغيرها وقد قدر مركز الإحصاء الفلسطيني انكماشا حادا في الناتج القومي المحلي الإجمالي بنسبة الثلث خلال الربع الرابع من سنة 2023 مقارنة بنفس الربع من عام 2022 مع انخفاض بأكثر من 80% في قطاع غزة وبنسبة 22% في الضفة الغربية، ويرجح سبب الانخفاض إلى انكماش في القيمة المضافة في جميع القطاعات ما انعكس على مستويات المعيشة وسوق العمل بما في ذلك التوظيف وساعات العمل وكذلك الدخل.
تشير الإحصاءات بأن حوالي 507000 وظيفة فقدت في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية بسبب الحرب المستمرة على قطاع غزة والاقتحامات المستمرة في الضفة الغربية، حيث تم فقدان حوالي 201000 وظيفة في قطاع غزة أي حوالي ثلثي أجمالي العمالة في القطاع إن لم يكن أكثر، وكذلك 306000 وظيفة في الضفة الغربية بمعدل ثلث إجمالي العمالة وبذلك ارتفعت معدلات البطالة حيث من المتوقع ان تصل لعام 2024 حوالي 57% وهو رقم كبير جدا اذا ما قورن بمعدلات البطالة عالميا بما ينذر بحالة معيشية صعبة لقطاعات مختلفة بما فيها قطاع المهندسين الفلسطيني.
هذا الواقع فرض أوضاعا معيشية صعبة على قطاع كبير من المهندسين العاملين في القطاع الخاص مع استمرار الحرب فكثير من المكاتب والشركات الهندسية قد قلصت عدد مهندسيها العاملين وجزء كبير أيضا قد أغلقت أبوابها وسرحت كثيرا من موظفيها مع تراجع الأعمال والمشاريع الهندسية ما ألقى بظلال معقدة وصعبة على شريحة المهندسين؛ والذين يعانون أصلا قبل الحرب وخاصة من السنوات التي تلت ما سمي بالربيع العربي، إذ باتت المنطقة أقل حرية واستقرارا وهو ما انعكس سلبا على اقتصاد دول الجوار ودول الخليج العربي مما أدى لعودة الكثير من المهندسين العاملين هناك إلى الساحة الفلسطينية والتي لا تستوعب كل هذه الأعداد بالتزامن مع زيادة مضطردة في أعداد الخريجين الجدد وتنوع تخصصاتهم مما زاد البطالة في قطاع المهندسين ليصل الى سقف 33% حسب إحصائية أعدتها نقابة المهندسين بين أعوام (2018-2023) . وقد بلغت أعداد المهندسين العاطلين عن العمل وربما تجاوزت ال 20400 مهندس ومهندسة، وهذا أيضا مع وجود الحرب يؤكد وجود خلل في توجهات الدراسة وكذلك في النظام التعليمي في الجامعات وكذلك في إجراءات الحكومات المتعاقبة مع غياب سياسات ومؤسسات التشريع وغياب الأنظمة والقوانين الناظمة والمنظمة لسوق العمل وأيضا تباطؤ القضاء في كثير من القضايا المرفوعة، وقد أوضحت النقابة في أوقات سابقة بأن سياسات القبول المعمول بها لا تتناسب مع احتياجات السوق وكذلك غياب وتجميد كثير من التشريعات في كثير من المؤسسات والشركات إذ أن كثير من الشركات هي شركات “أبوية” معظم موظفيها من الأقارب والأصدقاء بعيدا عن الحاجة و الكفاءة والتخصصية مما ساهم في تفاقم عدد المهندسين العاطلين عن العمل .
وقد بينت دراسة خاصة أعدتها النقابة سابقاً أن الوزارات والمؤسسات الحكومية بحاجة إلى 1300 مهندس ورغم ذلك لم يتم توظيفهم في حين أن عدد المهندسين الذين تخرجوا في السنوات الثلاث الأخيرة يفوق هذا العدد أضعاف كثيرة وهناك أيضا مشكلة لها جذور جندرية واجتماعية تتمثل في أن نسبة البطالة في صفوف المهندسات تفوق بكثير البطالة في المهندسين الذكور وقد عزت النقابة السبب في قدرة الشباب على السفر والعمل بينما الإناث لا يسمح لها بسبب طبيعة المجتمع الفلسطيني المحافظ ويبقى أن تجد لها فرصة عمل في البلاد وسط تزاحم شديد وظروف صعبة.
مما سبق، نرى بوضوح بأن الحالة المعيشية لقطاع المهندسين ومهنة الهندسة في فلسطين يزداد صعوبة ويزداد ضبابية لقادم السنوات وقد فاقمت الحرب الحالية والتقلب السياسي والاقتصادي والأزمات المتلاحقة الفجوة أضف إلى ذلك غياب السياسات الواضحة تجاه خلق بيئة جاذبة للاستثمار، فحتى الآن ومنذ قيام السلطة الفلسطينية لم يتم العمل على انفاذ وتطوير قوانين الاستثمار وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر منحها الحوافز الضريبية والجمركية والضمانات المختلفة وحيث أن القيود التي تفرضها السلطة تحد من تطور هذه المشاريع وذلك لتحديدها للحد الأدنى لرأس المال بمئة ألف دولار وبهذا تكون القوانين قد هدفت إلى تشجيع رؤوس الأموال للمشاريع الكبيرة وهذا الأمر لا يتناسب مع سوق العمل الفلسطيني حيث أن 95% من المشاريع هي مشاريع صغيرة.
يشكل إنهاء الحرب الإسرائيلية ورفع القيود الإسرائيلية المفروضة على الضفة الغربية وانتهاء الاقتحامات المستمرة خطوات أولى أساسية في طريق تخفيف الحالة المعيشية والاقتصادية الصعبة. وبمجرد تحقيق ذلك، ينبغي النظر في خطط إعادة بناء اقتصاد قطاع غزة واستعادة اقتصاد الضفة الغربية، وينبغي لهذه الخطط أن تعطي الأولوية للتدابير الاقتصادية التي لا تولد النمو فحسب، بل تحمي أيضًا الدخول وتخلق فرص عمل لائقة للشعب الفلسطيني وكذلك تطوير بعض البرامج والصناديق الداعمة للمشاريع الصغيرة للحد من البطالة، وتنظيم حملات اعلامية وتوعوية بقضية التخصص والتعليم والبطالة وثقافة التوجه نحو التعليم المهني وتوفير الميزانيات اللازمة لذلك وإنشاء مراكز كافية للتعليم المهني لنتمكن من توفير المهن، التي يحتاجها السوق المحلي في عدة مجالات أهمها “تعليم الكمبيوتر، والكهرباء، إضافة إلى الصيانة في تخصصات مختلفة وتوفير البنى التحتية والتكنولوجيا والعمل على تخفيف أسعار الطاقة والتي تعتبر في كثير من الأحيان غير كافية، والعمل على سن وتشريع القوانين الداعمة والمشجعة للاستثمار وتطويرها وإطلاق المشاريع التشجيعية والإنتاجية والإسكانات وتوفير الضمانات اللازمة وتطوير سياسات التشغيل في وزارة العمل والوزرات المختلفة وكذلك سن أنظمة لحماية المنتجات الملحية من السلعة المستوردة والعمل على تنظيم وتكامل المجالات الهندسية ومراجعة للسياسات المالية والمصرفية من أجل استثمار الأموال المكدسة في البنوك الفلسطينية.
يترافق هذا مع تطوير الأنظمة والإجراءات الناظمة للعمل الهندسي في فلسطين من خلال الإشراف الإلزامي، لما لذلك من أثر ايجابي على السلامة العامة والحفاظ على أرواح المواطنين.