هجوم الأفكار ..
ما أن تنتهي الحياة المدرسية حتى تبدأ نقاشات متواصلة تدور وتدور في رحى الأقارب وبين أروقة الأهل والأحبة والأصدقاء .. تشارك في رسم مستقبل شخص واحد له طبيعة خاصة وهوايات محددة وميول علمية وثقافية ما .. وسيتطلب الأمر اتخاذ القرارات السريعة في غضون أيام معدودة .. هي كذلك بكامل تعقيداتها .. ومن الأصل أن تخضع للعديد من القيم والأسس التي تحدد وجهة التخصص .. مثل نوع وقيمة التحصيل العلمي والحالة المادية والنفسية السائدة وحجم التحكم الأبوي وقدرة العقلية على التمييز بين خيارات المستقبل المجهول .. وتوجهات سوق العمل الحالية والمستقبلية المنظورة .. وحجم التطورات في مناحي الحياة المختلفة .. كل ذلك سيكون حاضراً لاتخاذ قرار واحد يصل لحياة كريمة ومستوى معيشي مُرضٍ .. لكن منهم من سبقتهم قراراتهم كونهم في أعلى هرم التحصيل العلمي (المعدل) .. وتلك القرارات ليست نتاج منحنى علمي ودراسة واقعية حقيقية وعمق في التفكير أدى إلى نضوج هذه القرارات!! لكنها المسارات التي تبناها كثير من حصل على هذا المعدل أو كانت نتاج حاجات نفسية كبريائية لدى الأهل بضغط المجتمع وحاجات التباهي المعروفة ..
هل المعدل شرط التخصص ؟!
المسارات التخصصية في الحياة لا يسبر غورها بضغط التحصيل العلمي – المعدل- ؛ فمن الواجب أن لا يؤثر فيها كبرياء مجتمع الآباء تحت شعار ابني طبيب أو مهندس أو محامً أو ما شابه؛لكنها حلقة بحث تبدأ صفحاتها مع أول الطريق .. ومنذ نعومة الأظفار لفهم تراكيب الحياة التي تتكون من سلسلة مترابطة من المفاهيم والمعاني التي تشكل مفهوم حياة الشخصية البشرية، التي ستسعى بكل طاقاتها في ذلك المسار التخصصي للارتقاء وضخ كافة إمكاناتها .. فتُنتج صورة من صور التكامل المطلوب من خلال موجات الأخذ والعطاء، فتتشكل بها تراكيب الجمال شيئاً فشيئاً مع كل عطاء وأخذ، لتتولد الحالة البراقة في كل ناحية فتزخر الحياة والمجتمع بنبضاتها المليئة بالخير لكل جوانب المجتمع ..
تخصصك ليس هوايتك أو شهادتك !!
الحياة بجوانبها ليست مجموعة من الكلمات المنمقة ولا عدداً من الصور المعدودة الجوفاء التي يتهافت على تجميعها كثير من الهواة لتحصيل آنٍ منثورة شكلية .. ليست إضافة وليست تنقيحاً ولو حملت كل العبقات المتطايرة .. الحياة لكل شخص تخصصه فيها وأداؤه وإضافته وأخذه منها .. لا نعني هوايته .. ولا تعني ميوله .. إنك تتخصص لتنتج لا لتعدد الشهادات العلمية وتحمل النياشين وتلتقط الصور .. تتخصص لتقدم وتعطي للمجتمع وتأخذ فتضمن الديمومة والاستدامة.. فتعلو انت ومجتمعك معاً .. قد تحمل عشراتالشهادات العلمية ولا تُكتبُ متخصصاً في أي منها .. لن يُلقى لك بالاً ما لم تفهم حقول الحياة وأسواقها جيداً .. وتعلم من أين تبدأ وكيف تنجز وكيف تعطي لتأخذ وكيف تأخذ لتعطي ..
الإحساس بالتخصص العملي خلال الدراسة !!
المسارات المهنية في الحياة والتخصصية .. تحتاج إلى إعمال الفكر جيداً في مكونات كل مجتمع وطبيعته وسلوكه واقتصاده .. وبنائه الداخلي من أجل الفهم الحقيقي للتوجهات المستقبلية الحديثة ومجالات التطور المطلوبة .. فمركب التطور في الحياة لا يقف عند حد معين، لحاجات المجتمع العديدة في العيش بكرامة وراحة باستغلال كافة الإمكاناتوتطوير المتاح .. فأساليب الحياة والعيش تتطور لكل الأسباب .. لذلك نجد العديد من الجامعات تعمل على طرح البرامج الدراسية الجديدة والتخصصات الحديثة التي لم تكن في السابق .. كل لذلك لإنتاج الطاقات المجتمعية في المجالات المفقودة في الأسواق وفي الحياة وللمواءمة المطلوبة في سوق العمل .. ولتشكيل إضافة حقيقية على حياة الناس والمجتمع بما يحقق مصالحهم ..
وإن أخطر ما تعاني منه مجتمعاتنا هو اللجوء إلى التخصصات الحديثة المبنية على مجرد فرضيات لا تمثل سوى زيادة عددية في مجالات الدراسة وتكثير الأقسام في الكليات المختلفة بغض النظر عن ارتباطاتها العملية في السوق المحلي أو حتى الدولي والاقليمي .. فمن التوجيه السليم لتلك التخصصات أن تبنى على أساس تفاعلي بين المجتمع وسوق العمل من جهة والمواد والكراسات الدراسية من جهة أخرى .. وقد كانت من الحكمة لدى أساتذة الدراسات العليا في عدد من الجامعات توجيه طلبتهم لتجنب تضييع الجهود في الأبحاث التي مآلها إلى الرفوف بالتركيز على الأبحاث التي تؤسس لتغيير المجتمع والتأثير الإيجابي .. فالبحث العلمي للتطور في الحياة والحداثة وإفادة المجتمع والرقي والعطاء المتواصل وليس مجرد ترف فكري أصمّ .. وقد أقبلت بعض الجامعات على تبني مسارات تكاملية وتفاعلية أثناء مرحلة الدراسة الجامعية، بحيث تجمع الطالب في مقاعد الدراسة مع الشركات والمؤسسات العاملة في الأسواق بما يضمن تحقيق الفائدة المرجوة من تلقي العلم وارتباطه بالحياة العملية من باب الإحساس بالتخصص من النواحي العملية خلال فترة الدراسة.
حماية المجتمع أو تعبيد الطريق إلى الهلاك
إن الإدارك الكامل للعلاقة بين التخصصات الجامعية الحديثة وحاجات سوق العمل هو الأساس الذي يبنى عليه قرار الطالب في اختيار التخصص المناسب بما يوائم سوق العمل؛ وهو بذاته المسؤولية التي من خلالهتنطلق الحكومات والجهات المختصةببناء قراراتها على ضوئه وترسم من خلاله برامجها المختلفة بما فيه نهضة مجتمعها ورقيه؛ فتدرك حجم الفجوات في المجتمع من ناحية التدفق الكبير باتجاه تخصصات معينة والإحجام عن بعضها .. كما قالها أحد المفكرين “ستعبدون الطريق التي سيمر منها عدوكم ليقتلكم” حين بدأ بها محاضرة لعدد من الطلبة الجامعيين حين وجد جلهم من تخصص واحد له علاقة بتعبيد الطرق..
ينتج من جميع ما سبق أهمية إدراك الواجب توفيره من تخصصات حديثة لحاجات المجتمع وربطه بتطور الحياة المطلوب ومستقبل المجمتع بالتوازي مع التطور الحاصل في دول العالم ككل .. وفي نفس الوقت توفير العمل والحياة الكريمة للطالب بعد الحياة الجامعية وانتقاله المباشر إلى الانتاج في أسواق العمل .. فهي النهايات التي من الواجب أن تبنى البدايات لها .. وتؤسس لما فيه كرامتها على المستوى الفردي والجماعي ..
تلك التوجهات المطلوبة للتخصصات الحديثة والتي تحددها عوامل عديدة ذكرناها سابقاً .. ترتبط في جميع عواملها بسوق العمل ووفرة الفرص في الأسواق .. فمن الهام أن يدرك الطالب الجامعي أن ميوله العلمية أو هواياته قد لا توفر أو لا تعني الحياة الكريمة أو فرصة العمل المناسبة .. ومن هنا ينطلق من خلال الحالة السائدة في المجتمع ومساراته المتاحة للبحث عن فرصة العمل التي تلبي حاجاته الآنية والمستقبلية؛ ولا ندع مجالاً للشك إن قلنا أن أفضل الأعمال التي من الممكن أن يسلكها أي مواطن هو الاستقلال بالعمل الخاص المبني على أساس سليم من التخصصية وتلبية الحاجات الحالية لأسواق العمل وتوفر مجالات التطور المستقبلي.. وليس من الخطأ أن يلجأ بادئ الأمر ليكون موظفاً عاملاً في مؤسسة ما فيتعرف على سوق العمل ومجالاته المختلفة المتاحة فتتفتح أمامه كافة المدارك ويحظى بالإلمام المطلوب ..
مقابر التخصصات
إن الحداثة في التخصصات الجامعية لا تعني ولادة ذلك التخصص من العدم .. بل قد تعني إلى مدى كبير تطور المهارات الخاصة بتخصص موجود بما يوائم سوق العمل والحاجات الفعلية للمجتمع ضمن تطور وتقدم الحياة الحاصل فيتولد تخصص حديث من رحم ذاك التخصص.. لذلك من أهم ما يؤدي إلى تطوير سوق العمل وفتح الفرص في الحياة العملية هو تطوير المهارات المكتسبة بمواكبة تطور كل علم وتخصص بذاته باستخدام الأدوات الحديثة المبتكرة للابداع والانتاج .. وعلى سبيل المثال لا الحصر الإمكانات والمهارات والأدوات المتعددة في عالم الحاسوب والبرمجيات التي تشكل بذاتها حداثة للعديد من التخصصات القديمة واللغات البرمجية التي لا غنى عنها لكافة الشركات في ضبط أنظمتها الداخلية وإدارتها السليمة .. وكذلك ما حدث في عالم الرسم للوحات الهندسية باستخدام البرامج والأدوات الخاصة والتصاميم الفنية عبر برامج التصميم الداخلي وعالم البعد الثلاثي والافتراضي وغيرها .. وكذلك المسارات التقنية في المهن المختلفة باستخدام الحداثة ومواكبة التطورات في ذلك واستخدام الآليات والآلات التي توفر الجهد والوقت والمال .. وغيرها العديد العديد من الأمثلة في كافة التخصصات.
في الخلاصة .. فإننا نرى أن توجه العالم في المرحلة الحالية هو باتجاه البرمجيات وتطوير تقنيات العمل بما يسهل الحياة في المجتمعات والاستثمار في مجال تطوير المهارات الذاتية وزيادة المجالات التقنية في العمل والاستمثار في مجال البحوث العلمية التي تطور من سلوكيات الحياة وتسهل معيشة الناس وتعالج كافة مشاكلهم الدارجة.
م .محمد عمر عدس
بكالوريوس هندسة مدنية / ماجستير هندسة الانشاءات
محكم انشائي وخبير عقاري
مستشار هندسي لعدد من شركات القطاع الخاص