بقلم: أ. فارس أبو الحسن، محام وناشط حقوقي
يستمر حراك نقابة المحامين النظاميين الفلسطينيين منذ صدور القرارات بقانون الصادرة عن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والتي صدرت لتعدل من قوانين أصول المحاكمات المدنية والتجارية والإجراءات الجزائية وقانون التنفيذ وقانون البينات وقوانين أخرى صدرت من خلال المجلس التشريعي الفلسطيني السابق، وهو صاحب الاختصاص الدستوري الأصيل بالتشريع، هذه التعديلات تمس تشكيل المحاكم واستقلال القضاء والشأن القضائي بمجمله خصوصاً بعد أن تم تأجل تنفيذ هذه القرارات لعدة أشهر بعد محاولات عدة للحوار، وعلى أمل أن تتوصل أطراف العدالة للتوافق حول هذه التعديلات وهو ما عجز عنه المجلس التنسيقي الأعلى لقطاع العدالة .
ولتوضيح أهمية هذا الحراك على الحقوق والحريات العامة لابد من تلخيص صورة المشهد التشريعي والقضائي في السلطة الفلسطينية لاستشراف الواقع الذي تأتي في سياقه هذه التعديلات وأهمية حراك النقابة في مواجهتها .
في عام 2016 تم تشكيل المحكمة الدستورية الفلسطينية واختيار قضاتها من قبل رئيس السلطة الفلسطينية بعد ما يقارب العشر سنوات على إصدار قانون يؤسس للمحكمة الدستورية، ويؤدي أعضاء المحكمة اليمين الدستورية أمام رئيس السلطة الفلسطينية وبغياب رئيس المجلس التشريعي وفق نص القانون، وفي السنوات الأولى لعمل هذه المحكمة أصدرت قراراُ جدلياً بحل المجلس التشريعي الذي تعطلت أعماله بسبب حالة الانقسام التي طالت النظام السياسي الفلسطيني، في ظل اعتراض المؤسسات الحقوقية على طريقة تشكيلها والقرارات التي أصدرتها والتي تمس الحقوق والحريات وتتأثر بتوجهات السلطة ما انعكس سلباً على الحالة التشريعية والقضائية الفلسطينية بين شطري الوطن (الضفة وقطاع غزة) .
بعد سنوات من استخدام السيد رئيس السلطة الفلسطينية لصلاحيته في اصدار القرارات بقانون الواردة في المادة (43) فقرة (1) وبعد تغييب المجلس التشريعي، قام الرئيس بإصدار مرسوم رئاسي يحمل الرقم (7) لسنة 2019 شكل بموجبه وأوجد من العدم جسم غير دستوري سمي المجلس التنسيقي الأعلى لقطاع العدالة يضم في عضويته 1- رئيس مجلس القضاء الأعلى رئيساً وعضوية 2- وزير العدل 3- المستشار القانوني لرئيس الدولة 4- النائب العام 5- مدير عام الشرطة الفلسطينية 6- نقيب المحامين 7- مدير عام الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الانسان، وبنظرة مبسطة لتركيبة هذا المجلس التنسيقي نجد أن ميزان اتخاذ القرار يميل بشكل كبير وواضح لصالح السلطة التنفيذية، وأنيط بهذا المجلس التنسيقي حسب المادة (2) من المرسوم عدة أهداف تتعلق بتنسيق العمل بين مكونات قطاع العدالة وفي آخر أهدافه الوارد في الفقرة (6) جاء ما نصه “تطوير وتحديث القوانين والأنظمة الخاصة بقطاع العدالة” وهنا تثور عدة أسئلة بهذا الخصوص، هل تسمية هذه المجموعة من الشخصيات “بالمجلس” جاءت من فراغ أم أنها تريد طرح بديل عن “المجلس” التشريعي ليظن السامع أن الحديث عن مجلس حقيقي لما لهذه الكلمة من دلالات؟ أليست صلاحية تطوير وتحديث القوانين هي من صميم عمل المجلس التشريعي؟ هل يعني تشكيل هذا المجلس هو مأسسة لسيطرة السلطة التنفيذية على سلطة التشريع مع أن ذات المرسوم ينص في أولى أهدافه على “ترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات” فأين إعمال هذا المبدأ واقعياً وعملياً؟ هل آليات التشريع التي يمر بها القانون قبل إصداره في نقاش مجتمعي يشمل الخبراء والمؤسسات الحقوقية ومرور القانون بعدة قراءات تمهيدا لإقراره بصورته النهائية تُختزل جميعها بعمل هذا المجلس التنسيقي؟ وهل تم احترام تشكيل المجلس التنسيقي ووجود أعضاءه أم أن القرارات بقانون كانت تُنَسَب فقط من رئيس مجلس القضاء أو من مستشار الرئيس دون الرجوع للمجلس التنسيقي والتشاور حولها؟.
وبنظرة قانونية ومهنية محايدة لمئات القرارات بقانون التي أصدرها السيد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس منذ العام 2007 وحتى يومنا هذا، والتي تستند لنص المادة (43) فقرة (1) ونصها “لرئيس السلطة الوطنية في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، إصدار قرارات لها قوة القانون…”، يمكن تصنيفها لثلاث انواع، قرارات ضرورية لا تحتمل التأجيل لتسيير أعمال السلطة ومرافقها المختلفة في ظل غياب المجلس التشريعي صاحب الصلاحية الدستورية في التشريع، ولكن هناك إضافة لهذا النوع من القرارات نوعين آخرين الأول لا يكتسب صفة الضرورة بل هو غير ملح لا في التوقيت ولا في الموضوع وهناك نوع آخر من القرارات جاء لغايات مصلحية بحتة وبالتالي لا يمكن القبول بها، والمشكلة الكبرى أن الجزء الأهم من هذه القرارات جاء ليجرد مبادئ استقلال القضاء والفصل بين السلطات وسيادة القانون من مضمونهم بكل ما تحمله الكلمة من معنا، ويؤسس “لنظام” تتجمع فيه كافة السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية بيد رئيس السلطة الفلسطينية وهو ما لا يبشر بأي خير لمستقبل سلطة القانون المنشودة .
على ضوء هذا الواقع جرت انتخابات نقابة المحامين الفلسطينيين بتاريخ 15/5/2022 وكان من ضمن المواضيع التي أثارتها الهيئة العامة على المرشحين لهذه الانتخابات في مختلف اللقاءات المباشرة أو غير المباشرة (الاعلامية) سؤال حول (ماذا ستفعلون في حال وصلتم لمجلس النقابة بمواجهة القرارات بقانون ؟)، وكان السؤال ينصب في الأساس على لقرارات بقانون التي تعدل من القوانين (الإجراءات الجزائية وأصول المحاكمات المدنية والتجارية وقانون التنفيذ) تحديداً.
وكان التباين واضحا تبعاً للخلفيات السياسية والتنظيمية والفكرية للمرشحين حول إلى من يجب أن توجه الانتقادات والفعاليات النقابية المعترضة على إصدار هذه القرارات بقانون هل توجه ضد رئيس مجلس القضاء الأعلى بصفته رئيس المجلس التنسيقي الأعلى (والمتهم بتنسيب هذه التعديلا منفرداً) كما فعلت النقابة فيما سبق من فعاليات قبل الانتخابات كالاعتصام أمام مجلس القضاء الأعلى مثالاً، أم أن توجه لمصدر هذه القرارات وهو السيد رئيس السلطة الفلسطينية مباشرة بالتوجه نحو المقاطعة في رام الله في حال فشلت جميع المساعي للحوار ووقف هذه القرارات ؟
وبعد إصرار اللجنة التنسيقية على نفاذ هذه القرارات وعدم قبول الغائها أو وقف العمل بها جاء قرار مجلس النقابة بالدعوة للتجمع السلمي في ميدان المنارة برام الله ومن ثم التوجه إلى المقاطعة لإسماع صوت المحامين للسيد الرئيس مباشرة وتسليمه كتاب تشرح فيه النقابة موقفها وأوجه اعتراضها وملاحظاتها على القرارات بقانون ذات الصلة بالاجراءات القضائية، وكانت النتيجة أن أحال الرئيس الأمر إلى المجلس التنسيقي الذي اجتمع في 17/7/2022 وقرر نشر التعديلات الأخيرة على القرار بقانون بشأن تعديل قانون التنفيذ ونفاذه، ووقف نفاذ القرار بقانون بتعديل قانون الإجراءات الجزائية حتى تاريخ 1/9/2022، والاستمرار في نفاذ القرار بقانون بشأن تعديل قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية، مع إبقاء الباب مفتوحا لإبداء أية ملاحظات عليه والمضي في نفاذ وتطبيق ورغم تحفظ نقيب المحامين على قرار هذا المجلس بإصراره.
وبناء على ذلك لم يعد أمام مجلس النقابة إلا أن يستمر في فعالياته النقابية لا ليطالب بحقوق لمنتسبي النقابة من المحامين ولكن ليصون حقوق المواطنين وحرياتهم التي تمسها هذه القرارات بقانون وتنتهك أبسط قواعد المحاكمة العادلة وحقوق المتهمين وحريتهم وكرامتهم وتفتح الباب أمام عنف مجتمعي يضر بالسلم الأهلي ويؤثر سلبا على الاقتصاد وعلى مناحي الحياة المختلفة في فلسطين، وهو ما لمسته وأيقنت خطورته العديد من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية والمؤسسات الإقتصادية والعديد من القضاة والنقابات المهنية المختلفة التي أيدت وساندت النقابة في مطالبها وانضمت لفعالياتها .
إن الخروج من هذا النفق المظلم الذي يهدد بتقويض أسس بناء دولة القانون هو المضي باتجاه إجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية واحترام الإرادة الشعبية باختيار من يمثلها .
وفي حال استمرار الوضع القائم ومع بقاء المجلس التنسيقي كأمر واقع لحالة الضرورة وفي الأمور التي لا تحتمل التأجيل فالأصل قبل أن يصار لتعديل أي قانون أن يمر بنقاش مجتمعي ومؤسساتي لا أن يطبخ على عجل دون دراسة مستفيضه لأبعاد وأثار وتبعات هذه التعديلات والقرارات بقانون.