بقلم: الأستاذ علاء حميدان
ناشط نقابي ورئيس مجلس اتحاد طلبة النجاح سابقاً
يتميز طلبة الجامعات بدورٍ طليعي في التغيير وتحرير الشعوب ونهضتها، ورغم أنَّ دورهم ينصبُّ -أساساً- في العمل النقابي داخل جامعاتهم، إلا أن تأثيرهم يتجاوز أسوارها، بوصفهم الشريحة الأكثر تحررًا…، ما يمنحهم مساحة كبيرة للعمل والتحرك، ولكنْ في الوقت ذاته يُلقي على عاتقهم مسؤوليات جمّة، وبالتالي ضريبة أكبر! ولا سيما في الحالة الفلسطينية التي ضربها الانقسام السياسي منذ أوسلو، فضلاً عمّا تعانيه كثيرٌ من المؤسسات (الفاقدة للشرعية) وكذلك الفصائل التي تراجعت أدوارها، لأسباب مختلفة، وكل هذا قد انعكس سلباً على الجامعات وواقعها بنسب متفاوتة.
ورغم أنَّ عموم طلبة الجامعات ليسوا مؤطرين، إلا أنهم يشكلون جسماً كبيراً وداعماً للحركة الطلابية، بل ومتقدماً عليها أحياناً… لكن ديمومة تمثيلهم وقيادتهم هي مسؤولية الحركة الطلابية التي لها امتداداتها الفكرية والسياسية في الشارع الفلسطيني، والتي يُفترض أن تتنافس كُتَلها – سنوياً- على قيادة مجالس الطلبة عبر الانتخابات. ولا يمكن توصيف واقع الحركة الطلابية، بمعزل عن الواقع الفلسطيني، فهي مؤثرة ومتأثرة، وتتقدم أو تتراجع تحت ضغط الواقع.
الحركة الطلابية: المراحل والأدوار
يمكن تقسيم تاريخ الحركة الطلابية إلى ثلاث مراحل: الأولى- منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وقد اتسمت بداياتها بالطروحات الفكرية والسياسية، والنضال، ودعم الكفاح المسلح، ثم تطورت في نهايتها المقاومة داخل فلسطين، وكان يقود تلك المرحلة – إجمالاً- حركة الشبيبة. والثانية- بعد توقيع اتفاق أوسلو عام (1993) واتسمت بدايتها بتعمّق الخلافات السياسية، واستمرت فيها المقاومة ثم تطورت وأثّرت، وصارت فيها الكتلة الإسلامية منافساً قوياً، أهَّلَها لقيادة تلك المرحلة إجمالاً. والثالثة- منذ الانتخابات العامة عام (2006) وتداعياتها من انقسام وغيره وحتى الآن، واتسمت بمنع إجراء الانتخابات في معظم جامعات الوطن أو عدم انتظامها الدوري، باستثناء جامعة بير زيت، وقد رافق ذلك استهداف مركّز للعمل الوطني الحقيقي، وعلى رأسه دور الحركة الطلابية، التي كانت وما زالت تحدد أولوياتها ووسائلها وأدواتها حسب كل مرحلة وأهدافها.
وفي المرحلتين الأولى والثانية، تصاعدت وتطورت ثنائية (العمل النقابي والعمل الوطني)، حتى بلغت مستوى متقدّماً خلال انتفاضة الأقصى، وهكذا برز الدور الوطني للجامعات. ثم تراجع كل ذلك تدريجياً بعد نتائج الانتخابات العامة عام (2006)، وكان التراجع بنسب متفاوتة ما بين جامعة وأخرى، إلى مستوى متدنٍ اضطرت فيه الحركة الطلابية عموماً إلى النضال – وبنسب متفاوتة- بهدف الحفاظ على كرامة الطالب وحرياته الأساسية والمشروعة في ظل استهداف مزدوج (تراكمي وممنهج) للحالة الوطنية الحقيقية…، والتي تمثلها الكتل الطلابية وتنظيماتها السياسية الرافضة لأوسلو منذ توقيعها، والتي بدأت دفع ضريبة الرفض منذ ذلك الحين.
الحركة الطلابية وإدارات الجامعات
إنَّ إدارات الجامعات عموماً تريد تمثيلاً طلابياً شكلياً فقط، ولا تريد حركة طلابية قوية وواسعة وفاعلة، لذا تمارس التضييق عليها، وهذا متوقع؛ لأنَّ قوة الحركة الطلابية ووحدتها، يكلفها الكثير في الملفات النقابية البارزة، كملف الأقساط وغيره… بل إن سلوك الإدارة قد يكون طبيعياً وصحّياً؛ فالتضييق يخلق التحدي ويقوي الحركة الطلابية بالتجربة العملية… لكنْ ما ليس طبيعياً ولا صحّيًّا، هو تواطؤ بعض إدارات الجامعات وتماهيها مع المنظومة الحاكمة، في توغلها التراكمي والممنهج في استهداف الحالة الوطنية الحقيقية ومن يمثلها، وعلى رأسها الحركة الطلابية الجامعية.
وبهذا تكون تلك الإدارات (إدارة جامعة النجاح مثالاً)، قد ارتكبت خطيئة بحق طلبتها وذاتها والجامعة على حد سواء؛ حين قبلت لنفسها ذلك الدور التابع والسيئ، بهدف إضعاف الحركة الطلابية، وإيجاد حالة جامعية مترهلة، وغير مكلفة، وفارغة من مضمونها الحقيقي، ومريحة لها، وهذه الحالة – مع مضيّ السنوات ودون إجراء انتخابات بشكل دوري– من الطبيعي ألا تقف عند حد معين، فقد تعمّقت واستفحلت، حتى وصلت – فيما ظهر على السطح منها – إلى درجة اعتداء “أمن الجامعة” على طلبة أبرياء، نظموا اعتصاماً للمطالبة بحقوق زملائهم المشروعة، دون أدنى مخالفة للقانون! ما فجّر أزمة، تابع الكل مجرياتها ونتائجها، وكان الوعي الطلابي بطلها بامتياز.
الحركة الطلابية وتقديم النموذج
من أعظم الأدوار المنوطة بالحركة الطلابية في هذه المرحلة، هو أنْ تقدّم نموذجاً (متميزاً وملهماً)- وقد يتغير النموذج حسب الحاجة والمرحلة والواقع- نموذجاً في العمل النقابي، أو في العمل الوطني ومقاومة الاحتلال، أو في المبادرات المجتمعية والتطوعية، أو في التفوق والتميز الأكاديمي، أو في الصمود والثبات والوحدة وانتزاع الحقوق والكرامة والحريات، أو في ذلك كله جميعاً! ولكنّ فقه الأولويات يقول: إنّ أولى نموذج يمكن أن تقدمه الحركة الطلابية في حالتنا الفلسطينية الراهنة، هو نموذج (الصمود والثبات والوحدة وانتزاع الحقوق والكرامة والحريات)، ولا يعني ذلك أن تتوقف بقية النماذج، لا وإنما المقصود، هو أن نغلّب عملاً على آخر حسب الحاجة والأولوية، فإن تحقق النموذج ذو الأولوية أعلاه، فإنه يمهد الطريق – وبقوة- لمختلف النماذج والأعمال!
وهذا ما فعلته الحركة الطلابية في جامعة بير زيت، فقد قدّمت نموذج (الصمود والثبات والوحدة وانتزاع الحقوق والكرامة والحريات)، فانتصرت أسرة الجامعة بذلك النموذج، لتستمر في ترسيخ حياة جامعية أفضل في ظل مجلس طلبة منتخب، ومشكّل من الكتل الطلابية الفائزة، كي تسهّل تحقيق بقية النماذج والأعمال وعلى رأسها الإنجازات النقابية. وليس هذا فحسب، بل إنّ إنجاز بير زيت صار إنجازاً مركّباً؛ أولاً- حين واجهت الحركة الطلابية مسوّقي “نموذج جامعة النجاح” ما قبل الأزمة الأخيرة، وأفشلت مشروعهم. وثانياً- حين تمّ تصدير نموذج بير زيت إلى النجاح – ذات البيئة الأشد صعوبة- لتكسب الحركة الطلابية وعلى رأسها الحراك الطلابي المستقل في النجاح، المعركة الأخيرة في وقت أقلَّ مما استغرقته معركة الحركة الطلابية في بير زيت، وهذا طبيعي؛ لأن النموذج الأول هو الأصعب والأشد، وهو الأكثر تقديراً. وهكذا انقلب السحر على الساحر.
الكتل الطلابية: علاقاتها، وانتخابات مجلس الطلبة
هناك خطّ وطني حقيقي، وآخرُ مزيّفٌ لضرب الحقيقي، فإذا احتكم الطلبة إلى الخط الأول، كمعيار أساسي ترافقه معايير الصدق والكفاءة والقدرة والمقاومة والمواقف السياسية التي تخدم فلسطين فعلاً… إذا راعى الطلبة تلك المعايير في اختيارهم لمن يمثلهم، فإن انتخابات مجالس الطلبة، وغيرها، تعدّ وسيلة للمساءلة والمحاسبة وتصحيح المسار، لا وسيلة لإقصاء وإلغاء شركاء الوطن! فالخاسر في نتائج الانتخابات حينئذٍ، يتحتم عليه أن يراجع ذاته وسياساته ومواقفه حسب منظومة المعايير المعتمدة، فإنْ فعلَ ذلك وصحّح المسار التزاماً بمعيار الخط الوطني الحقيقي، فإنه سيقترب من الفوز، وبالتالي سيصب ذلك كله في مصلحة الطلبة والشعب والوطن، ثم إنه من مصلحة أية كتلة واعية ومتقدمة في الفكر، أن تُبقي على حالة التنافس المحمود بينها وبين غيرها، حتى تظلّ دائمة التطوير والتجديد لذاتها وأدائها، كي تقدم مستوىً عالياً من العمل النقابي وغيره، وهذا يصب في مصلحة الطلبة والوطن، بل إنَّ كل كتلة بحاجة إلى مراجعة داخلية، كي تدرك أين أصابت وأين أخطأت، وهذا لا يتأتى إلا من خلال التجارب المختلفة، وخوض الانتخابات.
ورغم أنَّ كل كتلة تحرص على الفوز إلا أنه يجب أن تتمتع كل الكتل الطلابية برؤية أعمق في أهدافها، تستند إلى ممارسة الوحدة والمشاركة حتى لو كانت هي الفائزة، وهذا ما جسدته الكتلة الإسلامية في بير زيت مؤخراً، في طبيعة تشكيلها لمجلس الطلبة رغم أنها حسمته وحدها. ثم إن علاقة الكتل فيما بينها يجب أن تتقدم على فصائلها، فثمة هامش لكل كتلة تستطيع من خلاله أن تتقدم على تنظيمها لصالح الطلبة، بغية تقديم نموذج وحدوي متقدم، يؤثر في طلبة بقية الجامعات، وعلى أمل أن يؤثر في الفصائل الفلسطينية جميعها لصالح رأب الصدع والوحدة والمشاركة في القرار السياسي. ثم بعد ذلك كله ثمة ملفات نقابية كثيرة (ذات مراحل ومستويات آنية واستراتيجية)، تحتاج إلى عمل تراكمي.
ختاماً- بتقديري، إنَّ مستوى الأداء في العمل النقابي، يرتفع كلما اتسعت مساحة الحريات، والممارسة الديمقراطية وأجريت الانتخابات، وكلما ارتفع مستوى الأداء في العمل الوطني والسياسي؛ لأن العمل الوطني يفرض هيبة مسبقة للحركة الطلابية بقياداتها ورموزها، ما يجعل إدارات الجامعات أكثر استجابة لها ولمطالبها النقابية، وهذه معادلة جديرة بأن يستوعبها الطلبة جيداً. والطلبة بمجموعهم هم الثروة الحقيقية، وهم الحراك المستقل الحرّ، والواعي، والمتنوع، وغير المؤطر، وغير المسيّس، والذي قد يضم كثيراً من الطلبة لانتزاع حق مشروع محدد، وهم الداعم الأكبر للكتل الطلابية في حال انخفض سقف مطالبها قليلاً. وهم كذلك شبكة أمان، وضامن للحريات والكرامة والحقوق المشروعة، حتى تتوفر البيئة المناسبة لتجديد دماء الحركة الطلابية من جديد عبر انتخابات دورية نزيهة، تنقل العدوى للعاملين والموظفين في الجامعات، كي يستعيدوا مكانتهم ودورهم، بما يدشن مرحلة رابعة وجديدة. فهل نحن فعلاً – وبعد الذي حصل في جامعتي بير زيت والنجاح- هل نحن في بداية مرحلة رابعة وجديدة للعمل النقابي بقيادة الحركة الطلابية؟ سؤال ستجيب عنه الأيام.