بقلم د. سامر نجم الدين، استاذ القانون في جامعة الخليل

أصدر مجلس الوزراء الفلسطيني الشهر الماضي قراره القاضي برفع رسوم التقاضي أمام المحاكم النظامية الفلسطينيه، الأمر الذي استثار القانونيين في فلسطين، واستدعى قيام نقابة المحامين الفلسطينيين العديد من الاجراءات لمواجهة هذا القرار، منها تعليق العمل التحذيري أمام محاكم الجنايات والفساد واستئناف الجزاء بعمومه، وصولًا إلى تعليق العمل بشكل كامل يوم الاربعاء اضافة إلى الدعوة لعقد انتخابات عامة، للتخلص من حالة الفراغ الدستوري والقانوني الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية منذ فترة، ولا بد من الإشارة هنا أن هذه ليست المحاولة الأولى لإقرار نظام رسوم جديد، حيث سعى مجلس الوزراء في العام ٢٠١٧ تقريبا لفرض نظام رسوم جديد، إلا أنه جوبه بموجة رفض قاطعه، قادتها نقابة المحامين الفلسطينين أودت بهذا النظام إلى السقوط ولم يرَ النور، وها هو مجلس الوزراء يعود مرة أخرى ليقر نظام وسوم جديد للتقاضي أمام المحاكم.

أمام هذه الخطوات التي اتخذتها نقابة المحامين وعدد من مؤسسات المجتمع المدني الرافضة لهذه الخطوة، لا بد من معرفة الأسباب التي استدعت ضرورة مواجهة نظام رفع الرسوم، فخطورة رفع رسوم التقاضي يمكن تناولها من عدة مرتكزات :

أولا: مرتكزات قانونية وهي: 

المرتكز الأول: هدم مبدأ مجانية التقاضي بمخالفة صريحة للقانون الاساسي الفلسطيني، فالتقاضي المجاني لبنة أساسية لقضاء عادل نزيه، يحمل على عاتقه أمانة الحقوق.

المرتكز الثاني : تخالف هذه الرسوم بشكلها المرتفع مبدأين مهمين وهما مبدأ سلاسة اللجوء الى القضاء ومبدأ لجوء المتقاضي إلى قاضيه الطبيعي، فالمتقاضين سيفضلون اللجوء إلى طرق أخر مثل القضاء العشائري أو التحكيم كون كلفة هذه المكنات أصبحت مقاربة لكلفة القضاء النظامي، ولها ميزة السرعة في فصل القضايا المعروضة عليها، وهو ما يفتقده القضاء النظامي،  وتعتبر عرقلة المواطن باللجوء لقاضيه الطبيعي مخالفة صريحة نص المادة ٣٠ من القانون الاساسي

المرتكز الثالث: عدم الامتثال للقاعدة التشريعية بأن كل ما يمس الذمة المالية للمواطن يجب أن يكون بقانون، وبالتالي عدم اختصاص مجلس الوزراء باصدار نظام رسوم جديد، فالحقيقة أن مسألة التفويض التشريعي شرطها الأساس وجود أمور لا تحتمل التأخير فوض لأجلها المجلس التشريعي السلطة التنفيذية مواجهتها بموجب نظام، وهو الامر الذي لا يتفق البتة مع طبيعة التعاطي مع الامور القضائية، فكل ما يتعلق بالقضاء يحتاج استقرار طويل الامد لاجل بناء منظومة قانونية مستقرة تبعث الاطمئنان في نفوس المتقاضين، ولا شك أن ثبات رسوم التقاضي أحد أهم مقومات الاستقرار في مرفق القضاء. 

ثانيا : مرتكزات واقعية وهي: 

المرتكز الأول: عدم منطيقة نسب الارتفاع في الرسوم فبعض الرسوم زادت اكثر من ضعف وهذا يشكل عبئًا على كاهل المواطن الذي ستكون المحاكم ملاذه الأخير بسبب هذه الرسوم المرتفعه بدلًا من أن تكون ملاذه الأول.

المرتكز الثاني: عدم التوافق الكامل بين مجلس نقابة المحامين ووزارة العدل حول جدول الرسوم بالرغم من مشاركة ممثل عن النقابة في لجنة اعداد النظام المذكور، الأمر الذي أجج الصراع بين الأطراف، خصوصًا أن مجلس القضاء الاعلى وهو جهة قضائية كان له دور في تنسيب تقرير موضوع الرسوم، وهو أمر خارج صلاحيته وفق مبدأ الفصل بين السلطات.

المرتكز الثالث: عدم مراعاة الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعانيها المواطن الفلسطيني، فارتفاع اسعار السلع الاساسية دون زيادات في الدخل والراتب، جعلت تركيز المواطن الفلسطيني منصب على توفير احتياجات الاساسية، ورفع رسوم التقاضي ستؤدي به الى مفاضلة صعبة بين تلبية متطلباته الأساسية وبين اللجوء إلى القضاء، مما سيجعل مرفق القضاء مرفق ثانوي من وجهة نظر المواطن، كون متطلبات اللجوء اليه باهظة بالمقارنة مع وضعه الاقتصادي، وهو ما من شأنه أن يهدم حصون العدالة في ضمير المواطنين.

إن السبيل للخروج من الأزمة المحتملة القادمة في قطاع العدالة جراء نظام الرسوم الجديد مؤقتاً، لا يكون إلا بحوار موسع فعال على كافة الأصعدة مع الجهات ذات العلاقة وكل فيما يخصه بعد إلغاء العمل بنظام الرسوم او على الاقل تجميد العمل به بعد اعادة دراسته، آخذين بعين الاعتبار السعي لبناء ثقة مفقودة بيت المواطن وقطاعات العدالة، وتعزيز رغبته باللجوء إلى القضاء، ولا يمكن أن يكون ذلك باثقال كاهله برسوم تقاضٍ كبيرة تجعل من القضاء بابًا مفتوحًا للأغنياء فقط. 

إن فقدان فلسطين حاليا للمشروعية الدستورية في مؤسساتها يجعل كل تحرك في أي اتجاه مشوبًا بالقصور وتنقصه ثقة الجمهور، لذا، فإن السبيل الحقيقي والحل الجذري لاستعادة مؤسسات الدولة الفلسطينية دستوريتها ومشروعيتها، لا يكون إلا باجراء انتخابات عامة تبث من جديد الثقه لهذه المؤسسات من خلال تفويض شعبي وديمقراطية حقيقية، فالجهة الوحيدة القادرة على كبح جنوح السلطة التنفيذية من التعسف والتغول على سلطات غيرها هو وجود مجلس تشريعي، وإلى ذلك الحين سنبقى في بوتقة الحلول المؤقتة لإشكاليات تختلقها السلطة التنفيذية، وتستنزف المؤسسات والأفراد في إيجاد حلول لها، وهو الأمر الذي يهدم سعي الجميع لبناء دولة يسودها النظام والقانون.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *